بحث بلاغي بعنوان
الوسائل البيانية وبلاغتها في حديث النبي صلى الله عليه وسلم
جامعة الأزهر كلية اللغة العربية قسم البلاغة والنقد
الوسائل البيانية وبلاغتها في حديث النبي "صلى الله عليه وسلم"
د / سعيد أحمد جمعة
الأستاذ المساعد في كلية اللغة العربية فرع شبين الكوم 1429 هـ 2008 م
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله حمدا يليق بجلاله وكماله , والصلاة والسلام على النبي وآله , ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين , وبعد : فإن من أهم القضايا التي تشغل البلاغة العربية إيصال المعنى إلى المتلقي , في هيئة لا لبس فيها , ولا خفاء , وإزالة كل ما يعترض المعنى من عقبات قد تُخفي بعضا من المقصود , أو تحجبه حجبا كاملا عن المتلقي , وكلما كان المعنى واضحا كان الأسلوب أبلغ , والمتكلم أفصح . والذي لا شك فيه أن المعنى لا يصل إلى السامع عن طريق اللفظ وحده , وإنما تساعده أمور أخرى تتآزر معه في حمل المراد , وهي ما تسمى بالوسائل الإيضاحية , التي يستعين بها المتكلم من حركة وإيماء , أو رسم وتوضيح , ومن هنا بزّ بعض المتكلمين بعضاً , وعلا بعضهم فوق بعض , ومن هنا أيضا يفترق الأسلوب المقروء عن الأسلوب الذي يحمله صاحبه بنفسه ويلقيه على الحاضرين ..... فيقف حيث أراد , ويصل حيث أراد , ويحرك يده أو رأسه , أو يشير بيده حيث أراد معنى خاصا , ولعلك تدرك هذا الفرق الكبير بين الأمرين حين تقرأ نصا من النصوص , وحين تسمعه من صاحبه يجسده لك تجسيدا , ويصوره لك تصويرا . ومن هنا كان لابد من إبراز دور هذه الوسائل في حمل المعاني وبلاغتها في تجلية المراد , وتوكيده حتى لا يبقى في نفس المتلقي شبهة . وتثور هنا عدة أسئلة , منها : هل ينقص المعنى عند حجب هذه الوسائل ؟ وهل لجوء المتكلم إليها لنقص عنده , أم لعجز في اللغة , أم لسبب آخر ؟ و ما هذه الوسائل ,وهل يمكن الابتكار فيها أم أنها محدودة؟وما علاقة كل ذلك بالبلاغة العربية ؟ تلك هي مثيرات البحث , ودوافعه في عالم يمتلئ بالجديد , ويكاد اللفظ فيه يتوارى خلف الصورة التي ملأت أركان الدنيا , واستحوذت على العقول فلا يكاد أحد يستغني عن هذه الوسائل وهذه التقنية التي لاتزال تقذف إلينا كل صباح بجديد , مما يشعرك وأنت تتكلم عن اللفظ وحده بأنك قادم من زمن آخر . ولكي يكون البحث ذا قيمة عالية اخترت له ميدان الوحي , وهو حديث المعصوم – صلى الله عليه وسلم – فلقد قال الله تعالى ( وَمَا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) سورة النحل 64 فكان النظر في حديث النبي نظراً في طبيعة البيان ومقوماته , وطرائقه التي سلكها ليوصل مراد الله تعالى إلى عباده , ولقد حاولت أن أنظر في الشعر القديم , لكن المؤسف أن الرواة نقلوا إلينا الألفاظ , وضنوا علينا بما يصاحبها من وسائل أنا على يقين من أن الشعراء أودعوها قصائدهم أثناء إلقائها , لكن حين نُقلت هذه القصائد ذهب كل شيء فيها ولم يبق إلا اللفظ . ولقد اخترت الحديث الشريف ليكون ميدانا للنظر , وذلك لعدة اعتبارات , منها : أن الغاية من دراسة البلاغة , وتعليمها للناشئة هي حسن تدبر بيان الوحي – قرآنا وسنة – والذي يؤدي بدوره إلى حسن العمل , ورضى الله تعالى . تلك هي الغاية التي من أجلها ندور في فلك البلاغة تعلما وتعليما . وأمر آخر : وهو أن رواة الحديث - جزاهم الله عن هذه الأمة خيرا – لم يتركوا شاردة ولا واردة من بيان النبي صلى الله عليه وسلم إلا نقلوها إلينا , مع اللفظ , فنقلوا إشاراته , وأحواله , وحركاته , وسكناته التي صاحبت ألفاظه . وكأنها حجج وبراهين على صدق اللفظ , أو زينة وتحبير للمعاني , وهي قبل ذلك وبعده من لوازم التعبير عن خفايا الصدور . وهذا ميدان واسع يحتاج إلى تنقيب عن البلاغة المصاحبة للفظ في بيانه صلى الله عليه وسلم . وهذا البحث ينتهج في مجمله المنهج التحليلي لبيان النبي – صلى الله عليه وسلم – والذي اعتمد في الأساس على هذه الوسائل . أما خطة البحث فإنها تحوي مقدمة وتمهيدا , وثلاثة فصول وخاتمة وفهارس في المقدمة أعرف بالبحث وطبيعته , وأهميته , وميدانه , ومنهجه وخطته . وفي التمهيد ألقي الضوء على مفهوم الوسيلة البيانية , وعلاقة هذه الوسائل بالبلاغة العربية . وفي الفصل الأول : أتناول بالتحليل تصوير المعنى بأعضاء الجسد....وفيه مبحثان الأول : تصوير المعنى باليد . والآخر : تصوير العدد بالأصابع وهو ما يطلق عليه " دلالة العقد " وفي الفصل الثاني : البيان بالحال أو : " دلالة الحال " ثم الفصل الثالث : البيان بالوسائل الخارجية , وفيه ثلاث مباحث: الأول : البيان بالخط . والثاني : البيان بالحصى . والثالث : البيان بالعصى . ثم تأتي الخاتمة وفيها ألخص ماتوصلت إليه , وما أوصي به أقراني , ثم الفهارس . التمهيد مفهوم الوسيلة التعليمية : ـ يقول الجاحظ:( زعمت الاوائل ان الانسان انما قيل له : العالم الصغير سليل العالم الكبير , لأنه يصور بيده كل صورة ويحكي بفمه كل حكاية , - فهو الوحيد من بين المخلوقات الذي يجمع مع الألفاظ المنطوقة الصور المنظورة , وذلك من كمال البيان - ولما اجتمع الناس , وقامت الخطباء لبيعة يزيد , واظهر قوم الكراهة , قام رجل يقال له : يزيد بن المقنع , فاخترط من سيفه شبرا , ثم قال هذا أمير المؤمنين - وأشار بيده الى معاوية - فان مات فهذا - واشار بيده الى يزيد - فمن أبي فهذا , واشار بيده الى سيفه , فقال معاوية : انت سيد الخطباء ) فتلحظ هنا أن الرجل اعتمد على وسائل بيانية,أوضحت عن مراده,وكانت ألفاظه قليلة,ومع ذلك قيل له: أنت سيد الخطباء . وحين يتحدث المتخصصون عن الوسائل التعليمية إنما يتحدثون عن الوسائل البيانية , ولا يعنينا هنا كون المتلقي تلميذا أو غيره , فنحن نقف الآن أمام كلام محمّل بوسائل إيضاحية ليست من قبيل اللفظ , بل هي أمور خارجة عن الكلام , وغاية المتحدث أو الملقي هو إيصال مراده إلى الآخرين وصولا كاملا , لذلك بستعين بكل ما يستطيع من وسائل إيضاحية تكشف عن مكنون القلب,وتفصح عن خبيء النفس والوسيلة في اصطلاح علماء التربية هي : ( كل ما يستخدم لتوضيح المعاني والأفكار ، أو التدريب على المهارات ، أو التعويد على العادات الصالحة ، أو تنمية الاتجاهات ، وغرس القيم المرغوب فيها ، دون أن يعتمد على الألفاظ وحدها , وهي باختصار جميع الوسائط التي يستخدمها المعلم في الموقف التعليمي لتوصيل الحقائق ، أو الأفكار ، أو المعاني لجعل المراد أكثر إثارة وتشويقا ، ولجعل الخبرة التربوية خبرة حية ، وهادفة ، ومباشرة في نفس الوقت . ) علاقة هذه الوسائل ببلاغة العربية ؟ هنا يثور اعتراض حول علاقة ذلك بالكلام , فمن المعلوم سلفا أن بلاغتنا بلاغة اللفظ , وكل مافي بلاغتنا لا يبعد عن اللسان , وما ينتجه من حروف وكلمات , وجمل وتراكيب ,,,,, إلخ ,وهذا صحيح , لكنك إن أدمت النظر لوجدت أن هذه الوسائل لا تبعد عن بلا غتنا العربية , فهي أحوال مصاحبة للفظ , ترشد إلى غايته , وتفصح عن غامضه , فهي جزء من سياق الكلام ومقامه . والبلاغة العربية كما تتناول بلاغة اللفظ تتناول في الوقت نفسه بلاغة السياق والمقام , فهما بمثابة المحضن الذي ينبت فيه الكلام , ..... والحق الذي لا أشك فيه ان اللغة العربية ليست لغة مسموعة فقط , بل هي لغة مشاهدة أيضا , وهي لغة ملموسة بل هي لغة تدرك من خلال الحواس الخمسة . ومن هنا فإن هذه اللغة لا تعيش وحدها , بل لا بد لها من بيئة تحيا فيها , وتتفاعل معها , وتأخذ منها وتعطيها , فطبقة الصوت الذي تؤدى به اللغة يعد أحد البيئات , وهيئة المتكلم , وحركة عينيه , وإشارات يديه , كل ذلك بيئة تحيا فيها اللغة . ثم ما يستخدمه المتكلم من أدوات , ووسائل يستعين بها على توصيل أغراضه إلى السامعين , كل هذه بيئة تنمو فيها اللغة , وتنهض , وتزدهر . وكلما كان النص محاطا ببيئة غنية وافرة , مترعة بالوسائل الكاشفة عن المراد , والمفصحة عن المقصود , كان أوفر حظا من النص الذي أرسل عاريا من وسائل الإفصاح , وإذا كانت الفصاحة هي الظهور والوضوح فلماذا نربطها بالكلام , وهو أحد الوسائل الحاملة للمراد ؟ !!! لماذا لا تكون الفصاحة شاملة كل الطرق الحاملة للغرض ؟ فالبيان هو كل ما كشف لك قناع المعنى وهتك الحجب دون الضمير , ورحم الله العقاد , فلقد قال : ( الفصاحة صفة تجتمع للكلام , ولهيئة النطق بالكلام , ولموضوع الكلام ..فيكون الكلام فصيحا وهيئة النطق به غير فصيحة , أو يكون الكلام والنطق به فصيحين , ثم لا تجتمع لموضوعه صفة الفصاحة السارية في الأسماع والقلوب , فكان أعرب العرب كما قال عليه السلام : " أنا قرشي واسترضعت في بني سعد بن بكر " فله من اللسان العربي أفصحه بهذه النشأة القرشية البدوية الخالصة ..... وهذه هي فصاحة الكلام ) لقد أزاح العقاد الباب بعض الشيء حين جعل الفصاحة للكلام ولهيئة الكلام ,ولموضوع الكلام , فزاد على ما قرره البلاغيون فصاحة هيئة الكلام , وفصاحة موضوع الكلام . فالفصاحة لا ينبغي أن تقتصر على اللفظ المنطوق -كلاما أو متكلما - بل ينبغي أن تشمل اللفظ , وما يصاحبه من وسائل مهمتها في الحقيقة الإفصاح عن المعنى , والكشف عن المراد , والبيان عما في الضمائر , ولذلك يقول الطاهر بن عاشور في تفسيره لقول الله تعالى " علمه البيان : إنها( خبر ثالث تضمن الاعتبار بنعمة الإِبانة عن المراد والامتنان بها بعد الامتنان بنعمة الإِيجاد ، أي علّم جنس الإِنسان أن يُبين عما في نفسه ليفيده غيره ويستفيد هو . والبيان : الإِعراب عما في الضمير من المقاصد والأغراض وهو النطق وبه تميز الإِنسان عن بقية أنواع الحيوان فهو من أعظم النعم . وأما البيان بغير النطق من إشارة وإيماء ولمح النظر فهو أيضاً من مميزات الإنسان وإن كان دون بيان النطق ..) فهناك بيان بغير النطق يصاحب البيان بالتطق , ولعل من المفيد هنا أن أذكر القارئ بعبارة الجاحظ وهو يتحدث عن أنواع البيان فيقول : (والبيان اسم جامع لكل شيء - أكرر هذه العبارة - : اسم جامع لكل شيء - كشف لك قناع المعنى , وهتك الحجب دون الضمير , حتى يفضي السامع الى حقيقته , ويهجم على محصوله , كائنا ما كان ذلك البيان , ومن اي جنس كا ن ذلك الدليل , لأن مدار الأمر , والغاية التي إليها يجرى القائل والسامع إنما هي الفهم والإفهام , فبأي شيء بلغت الإفهام وأوضحت عن المعنى فذاك هو البيان في ذلك الموضع ) ويقول ( اعلم حفظك الله ان حكم المعاني خلاف حكم الالفاظ لان المعاني مبسوطة الى غير غاية وممتدة الى غير نهاية وأسماء المعاني مقصورة معدودة ومحصلة محدودة وجميع أصناف الدلالات على المعاني من لفظ وغير لفظ خمسة أشياء لا تنقص ولا تزيد أولها اللفظ ثم الاشارة ثم العقد ثم الخط ثم الحال وتسمى نصبة والنصبة هي الحال الدالة التي تقوم مقام تلك الاصناف ولا تقصر عن تلك الدلالات ) والنقاد قديما لم يغفلوا عن هذه الوسائل المصاحبة للفظ ( قال أحمد بن محمد بن عبد ربه صاحب العقد: البلاغة تكون على أربعة أوجه: تكون باللفظ والخط والإشارة والدلالة، وكل وجه منها حظ من البلاغة والبيان وموضع لا يجوز فيه غيره، ورب إشارة أبلغ من لفظ. وقال رجل للعتابي: ما البلاغة؟ قال: كل ما أبلغك حاجتك وأفهمك معناه بلا إعادة ولا حبسة ولا إستعانة فهو بليغ، قالوا: قد فهمنا الإعادة والحبسة فما معنى الاستعانة؟ قال: أن يقول عند مقاطع الكلام: اسمع مني، وافهم عني، أو يمسح عثنونه، أو يفتل أصابعه، أو يكثر التفاته، أو يسعل من غير سعلة، أو ينبهر في كلامه ) فهل استوعب العلم هذه الخمسة ؟ الواقع أننا صببنا جل اهتمامنا على اللفظ , وتركنا أربعة وسائل حاملة للمعاني , تشارك اللفظ تارة وتستقل أخرى , وهي في جميع الحالات شريكة للفظ ولها من القدر ما يستحق النظر في بلاغتها . وعليه .... فالبحث حين يتعرض للوسائل المصاحبة للفظ من حركات الجسد , أو الاستعانة بالوسائل البيانية الأخرى لا يبعد عن ميدان البلاغة , ولا يخرج من بابها , بل هو بحث في صميم البلاغة , لأنه ينظر في الأحوال المصاحبة للفظ , الكاشفة عن المراد منه , وأثر هذه الأحوال في وضوح المعاني , وتوكيدها , وقدرة هذه الأحوال على توجيه المتلقي إلى خصائص قد لا يلتفت إليها إن عري الكلام من هذه الأحوال . الفصل الأول تصوير المعنى بأعضاء الجسد المبحث الأول تصوير المعنى باليد اشتراك الجسد في رسم المعاني , شيء في الفطرة الأولى , فالمتكلم لشدة تمكن المعنى لديه يُظهر الكلام من خلال حركات الجسم, فتجد الألفاظ والجمل وقد لبست هيئة خاصة , وظهرت مرئية على أعضاء الجسد لتنقل إلى السامع ما أراد اللسان توصيله , لكن بعدت عليه الشقة , فتجد المتكلم تارة يشير , وتارة يلوح و وتارة , يبتسم ...إلخ وهو يريد من وراء كل ذلك دلالات ومعان , وحين يعجز اللسان عن حمل المعاني لدى البعض يقوم الجسد بالنيابة عنه , فكأن حركات الجسد هي النائب عن اللسان , ولذلك قال العلماء : ( إشارة الأخرس وكتابته كالبيان باللسان فيلزمه الأحكام بالإشارة والكتابة حتى يجوز نكاحه وطلاقه وعتاقه وبيعه وشراؤه وغير ذلك من الأحكام ) لكن البحث ليس في معرض عجز اللسان , بل في معرض اشتراك أعضاء الجسد مع اللسان في توصيل المراد, ولكي يتضح ذلك ندلف سريعا إلى تحليل النموذج الأول , ومن أبرز النماذج على ذلك الحديث الذي رواه سيدنا أبو موسى الأشعري عََنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ( إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ ( إن هذه الجملة التشبيهية التي تصور علاقة المؤمن بأخيه حوت كل أركان التشبيه ( من مشبه ومشبه به , ووجه شبه وأداة ) وقوله يشد بعضه بعضا هي وجه الشبه , وهذا الوجه لم يقتصر فيه على اللفظ المنطوق , بل تحركت الأصابع لترسم للمشاهد هذه العلاقة القوية بين المؤمن وأخيه , وهذا العون المتواصل الذي لا ينقطع أبدا , فالمقصود هنا أن يكون المؤمن عونا ونصيرا لأخيه , فما يحدث لأحدهما يحدث للآخر بلا فرق , فالسامع يدرك من هذه الحركة كل ما يتصوره من تماسك البنيان , وقوته , واتحاد عناصره . يقول ابن حجر – رحمه الله – ( وشبك بين أصابعه ) دليل على الاختلاط والامتزاج كالشئ الواحد لا على التمثيل والتنظير ....... وفي رواية يتحدث فيها رسول الله – صلى الله عليه وسلم - عن ترابط بني هاشم , وبني المطلب , يقول : إنا وبنو المطلب لم نفترق في جاهلية ولا إسلام وإنما نحن وهم شئ واحد وشبك بين أصابعه) فالتشابك بين الأصابع دل على هذه المعاني المنطوقة ( نحن وهم شيء واحد ) لس على سبيل التنظير كما وضح ابن حجر , وإنما على سبيل الحقيقة . كما تلحظ هذا الإيجاز في إدراك المعنى , وتقليل الجهد ، واختصار الوقت فلو أنك اقتصرت على الصورة التشبيهية : المؤمن للمؤمن كالبنيان , وتركت العقل يتصور هذا الاتحاد لأخذ العقل فترة من الزمن حتى يستحضر البنيان , ولبناته , وملاطه , وقوة تماسكه . لكن هذه الحركة عَبَرَت بالمتلقي هذه المراحل وألقت إليه هذه المعاني في صورة مرئية , جسدت له المقصود في أسرع وقت , ومن المعلوم أن إدراك المعنى من خلال رسمه متحركا , يكون أسرع من تصوره من خلال الألفاظ وحدها , كما أن الحركة تثير اهتمام وانتباه السامعين ، وتنمي فيهم دقة الملاحظة , وتصور مدى الاتحاد بين المؤمن وأخيه . زد على ذلك أن الصورة هنا يستطيع كل إنسان مشاهدتها , وتجربة قوتها , وتماسك عناصرها , فمادة الصورة هنا هي الأصابع , وكأن هناك قصد إلى ممارسة كل إنسان لهذه التجربة, حتى يتيقن من قوة اللحمة بين المسلم وأخيه , وبذلك يصل المعنى إلى القلب مصحوبا بهذا المشهد فبستقر فيه المعنى العقلي والمعني الحسي معا , وهذا من أقوى المؤكدات . ومن نماذج تصوير المعني باليد : ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( يقبض العلم ويظهر الجهل والفتن ويكثر الهرج ) . قيل يا رسول الله وما الهرج ؟ فقال هكذا بيده فحرفها كأنه يريد القتل " وفي رواية:) سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: يُقْبَضُ الْعِلْمُ وَتَظْهَرُ الْفِتَنُ وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ، قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْهَرْجُ؟ قَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا يَعْنِي الْقَتْل , وفي رواية أخرى , قيل يا رسول الله : وما الهرج فقال هكذا بيده فحرفها كأنه يريد القتل " َ ( وهذا الحديث روي بروايات كثيرة يُفسّر فيها الهرج بلفظ القتل نصاً فيقال : " والهرج القتل " .... وفي روايات أخرى يُسأل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن الهرج ما هو ؟ فيجيب : القتل , أو يجيب بتكرار اللفظة فيقول : القتل القتل . وفي هذا الحديث تدور عدة أسئلة , منها : وجه اختيار لفظ لا يعرفه الكثيرون ؟ ومنها : دور الحركة في الإفصاح عن المراد ؟ ولفظة الهرج – يسكون الراء – ( تدلُّ على اختلاطٍ وتخليط منه هَرَّجَ الرَّجُل في حَدِيثه: خَلَّط , ويقاس على هذا فيقال لِلْقَتْل هَرْج، بسكون الراء ) يقول ابن حجر :( قوله :" فقال هكذا بيده " هو من إطلاق القول على الفعل ,كأن الراوي بين أن الإيماء كان محرفا , قوله " كأنه يريد القتل " كأن ذلك فهم من تحريف اليد وحركتها كالضارب ... وعن أبي عاصم عن حنظلة , قال في آخره: وأرانا أبو عاصم كأنه يضرب عنق الإنسان ... وقيل : الهرج : القتل بلسان الحبشة , ونسب ذلك إلى سيدنا أبي موسى الأشعري ) وأصل الهرج في اللغة العربية الاختلاط يقال هرج الناس اختلطوا واختلفوا وهرج القوم في الحديث إذا كثروا وخلطوا . ..وأخطا من قال الهرج : القتل بلسان الحبشة , فهي عربية صحيحة , ووجه الخطأ انها لا تستعمل في اللغة العربية بمعنى القتل الا على طريق المجاز , لكون الاختلاط مع الاختلاف يفضي كثيرا إلى القتل وكثيرا ما يسمى الشيء باسم ما يؤول إليه , واستعمالها في القتل بطريق الحقيقة هو بلسان الحبش . وكيف يُدعى على مثل أبي موسى الأشعري الوهم في تفسير لفظة لغوية بل الصواب معه , واستعمال العرب الهرج بمعنى القتل لا يمنع كونها لغة الحبشة وان ورد استعمالها في الاختلاط والاختلاف ) وكلام الإمام ابن حجر في أن الختلاط مع الاختلاف يفضي كثيرا إلى القتل يجيب عن السؤال الأول , فلو قيل ويكثر القتل , لظن السامعون أن القتل هنا اثناء المعارك , والحروب , لكن النبي أراد أن القتل يكثر في غير الحروب , ومبعثه الاختلاط , والاختلافات بين الناس , فاختار لفظة تجمع بين الاختلاط والاختلاف الباعث على القتل ,وهي الهرج . أما دلالة الحركة فهي تعبر تعبيرا صادقا عن الرسالة التي أراد رسول الله توصيلها إلى أصحابه , وهي تجسيد عملية القتل , ورسمها أمام العيون , لتستحضر النفوس حالة الفزع والقلق والاضطراب , وهذا الشعور لا ترسمه الكلمات كما ترسمه الصورة , ولا تفصح عنه الألفاظ كما تفصح عنه الحركة , لذلك عمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رسم مشهد القتل ليصاحب الألفاظ الدالة على الفوضى , حيث يقبض العلم , وتكثر الفتن , ويشيع القتل . ومن نماذج تصوير المعنى بحركة اليد ما رواه كعب ابن مالك ( أنه كان له على عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي دين فلقيه فلزمه فتكلما حتى ارتفعت أصواتهما فمر بهما النبي – صلى الله عليه وسلم - فقال : يا كعب ! وأشار بيده , كأنه يقول : النصف .... فأخذ نصف ما عليه وترك نصفا ) ولعلك تلحظ في إيثار الحركة هنا على اللفظ مراعاة لحال المدين , والبعد عن اللفظ الذي يؤلمه , إذا قال ضع عنه النصف , كما تلحظ هذا الإيجاز في اشتمال الحركة الصغيرة على جملة كاملة , وهي " ضع عنه نصف الدين " وهو ما عقله كعب , وبادر بتنفيذه . إن الحركة تلخص المعنى , وتسرع به , وتحمل من المؤكدات ما يطول اللفظ في حصره , وتبعث في المتلقي نشاطا لاتراه في اللفظ , وتشرك أكثر من حاسة في حمل المراد إلى القلب , وتبتعد بالمعنى عن الفهم الخاطئ , لأنها تجسده أمام العيون , وما وجدنا حركة من رسول الله – صلى الله عليه وسلم - إلا وتبعها الفهم السريع من صحابته – رضوان الله عليهم جميعا , عكس اللفظ فإنه التأويل والتفسير يغلب عليه , وحمله على أكثر من معنى يكاد يعصف بالمراد , وراجع معي هذه الحركات ) أشار بيده , غمز بحاجبه ,رمز بشفته , لمع بثوبه , ألاح بكمه ) والعرب تفهم هذه الحركات وتصنفها وتتفاهم بها وتصحبها مع اللفظ تارة , و تستقل بها في الدلالة تارة أخرى , وهذه الحركات جزء أصيل في البيان عن المعاني , وهي في حاجة إلى النظر في أصولها , وقواعدها , وليس الحديث هنا عن لغة الصم والبكم , وإنما الحديث هنا عن حركات ظلت في ركاب اللفظ لم تنفك عنه احتاج السياق إليها , فأكملت جوانب خافية في المعنى , أو أكدت , أو أظهرت , أو أغلقت الباب أمام فهم خاطئ أو معنى غير مراد , ومع كل هذا ترى البلاغة العربية معرضة عن كل شيء إلا عن اللفظ , وكأنه ألقي في الهواء , أو وجد على قارعة الطريق , فزادت التخريجات , والتفسيرات , حتى ترى التركيب الواحد يشتط فيه إلى حد بعيد , ومن هنا كانت هذه الحركات والأفعال من الضرورة بمكان , يقول ابن تيمية – رحمه الله – ( والإخبار تارة يكون بالقول وتارة يكون بالعمل كما يعلم الرجل غيره بالاشارة بيده ورأسه وعينه وغير ذلك , وان لم يتقدم بينهما مواضعة , لكن يعلم قصده ضرورة , مثل أن يسأله عن شيء , هل كان ؟ فيرفع رأسه , أو يخفضه , أو يشير بيده , أو يكون قائما , فيشير اليه : اجلس , أو قاعدا مطلوبا فيشير اليه : أن اهرب , فقد جاء عدوك , أو نحو ذلك من الاشارات التي هي أعمال بالأعضاء , وهي تدل دلالة ضرورية تعلم من قصد الدال , كما يدل القول , وقد تكون أقوى من دلالة القول , لكن دلالة القول أعم وأوسع , فإنه يدل على الأمور الغائبة , وعلى الأمور المعضلة , وهذه الأدلة العيانية هي أقوى من وجه , ولكن ليس فيها من السعة للمعاني الكثيرة ما في الاقوال ) وانظر معي مثلا إلى الغسل من الجنابة فالعلماء يقولون : ( , فرض الغسل شيء واحد , وهو تعميم الجسد بالماء , ويدخل في الجسد الفم والأنف , فإنه يجب غسلهما من الداخل كما يجب غسلهما في الوضوء , والشعر الموجود على البدن يجب غسله ظاهرا وباطنا , بحيث يدخل الماء إلى داخله ) وهذا يستدعي من البعض المبالغة في تعميم الجسد بالماء , والوصول إلى حد الإسراف , لكن يأتي حديث عملي يصور هذا الفعل , والحديث يرويه سيدنا جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ الْغُسْلَ مِنْ الْجَنَابَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ :( أمَّا أَنَا فَأُفِيضُ عَلَى رَأْسِي ثَلاثًا وَأَشَارَ بِيَدَيْهِ كِلْتَيْهِمَا ) وهذا الحديث وأضرابه من الأحاديث الكاشفة عن تعليم الغسل أو الوضوء أو التيمم تجدها كلها قائمة على التصوير بالحركة , فهي تمثل بيانا على المُعَلِّم – كما يقول جنود الجيش , فلا يعقل أن تعلم أتباعك من خلال الكلام شيئا سيفعلونه بالحركات , بل الأولى أن يروا ذلك عيانا , وهذا ما فعله المعصوم – صلى الله عليه وسلم - , فحركة إفاضة الماء على الجسد باليدين ألجمت كل مبالغ في الغسل , وكل مسرف في الماء , بحجة أن الماء لم يصل إلى الأعضاء كلها كذلك الحال في تعليم الوضوء . وأخذ الصحابة ذلك من خلال الأفعال, فلقد روى الإمام أحمد كيفية وضوء الإمام علي بن أبي طالب – رضي الله عنه - , فقال : حدثنا عبد خيرٍ قال : ( جلس علىٌ بعد ما صلى الفجر في الرحبة ثم قال لغلامه ائتني بطهور فاتاه الغلام بإناء فيه ماء وطست قال عبد خير ونحن جلوس ننظر إليه فأخذ بيمينه الإناء فأكفأه على يده اليسرى ثم غسل كفيه ثم أخذ بيده اليمنى الإناء فافرغ على يده اليسرى ثم غسل كفيه فعله ثلاث مرار قال عبد خير كل ذلك لا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات ثم أدخل يده اليمنى في الإناء فمضمض واستنشق ونثر بيده اليسرى فعل ذلك ثلاث مرات ثم أدخل يده اليمنى في الإناء فغسل وجهه ثلاث مرات ثم غسل يده اليمنى ثلاث مرات إلى المرفق ثم غسل يده اليسرى ثلاث مرات إلى المرفق ثم أدخل يده اليمنى في الإناء حتى غمرها الماء ثم رفعها بما حملت من الماء ثم مسحها بيده اليسرى ثم مسح رأسه بيديه كلتيهما مره ثم صب بيده اليمنى ثلاث مرات على قدمه اليمنى ثم غسلها بيده اليسرى ثم صب بيده اليمنى على قدمه اليسرى ثم غسلها بيده اليسرى ثلاث مرات ثم أدخل يده اليمنى فغرف بكفه فشرب ثم قال هذا طهور نبي الله صلى الله عليه وسلم فمن أحب ان ينظر إلى طهور نبي الله صلى الله عليه وسلم فهذا طهوره ) وفي التيمم روي البخاري حديث عمار , وفيه يقول : (بعثني رسول الله في حاجة , فأجنبت فلم أجد الماء , فتمرغت في الصعيد ,كما تمرغ الدابة , فذكرت ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم - فقال: ( إنما يكفيك أن تصنع هكذا ) , فضرب بكفه ضربة على الأرض ثم نفضها ثم مسح بها ظهر كفه بشماله أو ظهر شماله بكفه ثم مسح بها وجهه ) فهذه أمور لا يفصح عنها باللفظ وحده , بل لا بد من استخدام الصورة , والحركة , إذ لا مجال لتأول هنا , أو اجتهاد , فحركة اليد , أو حركة الجسد عموما تبعث في النفس طمأنينة , وأريحية إلى اكتمال الأمر , وخروجه في أصح صورة . وهذا , وإن كنت واجده في الطهارة من الحدث الأكبر أو الأصغر , فإنك واجده في سياق آخر حيث تحتاج النفس إلى ما يطمأنها إلى صحة عبادتها , ومن ذلك ما رواه ابن عباس قال : ما سئل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عمن قدم شيئا قبل شيء إلا يلقي بيديه كلتيهما . أي : يرمي بهما , مشيرا بهما إلى أنه : لا حرج . لاحظ هنا دور اليد في التعبير عن رفع الحرج , وهذا الدور لاتبلغ الكلمات مبلغه , إنه دور تستحضره النفوس كلما تذكرت تقديمها أو تأخيرها , فتهدا وتقر . ولا يمكن لأحد أن يدعي أن حركة اليد هنا أو اليدين , أو الرأس , أو العين , أو الجسد عموما لا بلاغة فيها , أو أنها زائدة عن حد المراد , أو يمكن الاكتفاء باللفظ عنها . إن حركة المعاني في بعض السياقات لا يوفيها اللفظ حقها , ومهما بلغ اللفظ مبلغة , يظل للحركة دورها في تجلية كوامن فد لا ينتبه إليها اللفظ , وحين تقرأ قول الله تعالى في سورة يوسف " قالوا – وأقبلوا عليهم – ماذا تفقدون " تشعر أن جملة " وأقبلوا عليهم " تمثل دليلا متحركا على براءتهم , فالسارق حين ينادى عليه , لا يقبل , بل يفر . لذلك جسدت هذه الحركة الدليل الدامغ على براءتهم , وأثبتها القرآن الكريم , لتتلى على مر الدهور , لتكون مفتاحا لكل من يتدبر القرآن الكريم , ويستحضر هذا المشهد , فيتأكد من براءتهم , ويدرك في الوقت نفسه دور الحركة في رسم المعاني . ********* ومن أعجب ما تبدعه حركة الجسد لتقريب المعاني , وتبسيطها للسامعين ما رواه أبو هريرة حين قرأ هَذِهِ الآيَةَ ) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ( إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى ) سَمِيعًا بَصِيرًا ( قَالَ: ( َرأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَضَعُ إِبْهَامَهُ عَلَى أُذُنِهِ وَالَّتِي تَلِيهَا عَلَى عَيْنِهِ ( فالحديث هنا عن أداء الأمانات , وهو حديث محمل بألوان من الوعيد و والتهديد , بداية من قوله " الله يأمركم " وتأكيدها ب " إن " , والتذكير بأن للأمانات أهلا , هم أصحابها , وتكرار جملة : أن تحكموا , ثم العظة بقوله " نعما يعظكم به " وكأنها تعني : قد أعذر من أنذر , ... في هذا السياق يقال : إن الله كان سميعا بصيرا , ويتبع النبي – صلى الله عليه وسلم – هذه الجملة بمشهد يأخذ بالقلوب و مشهد يؤكد لك أن سمع الله وبصره قائم الآن يتفقدان خلجات قلبك , ودخائل نفسك , لتتذكر هذا القيام , وتستحضر هذه الإحاطة كلما سمعت لفظة الأمانات , , فهي مما يتساهل فيه الناس , وضياعها نذير بقيام الساعة ,... وقد بَعُدَ ابن حبان – رحمه الله – حين علق على هذا الحديث فقال : إنه (: أراد صلى الله عليه وسلم بوضعه أصبعه على أذنه وعينه تعريف الناس أن الله جل وعلا لا يسمع بالأذن التي لها سماخ والتواء , ولا يبصر بالعين التي لها أشفار وحدق وبياض جل ربنا وتعالى عن أن يشبه بخلقه في شيء من الأشياء بل يسمع ويبصر بلا آلة كيف يشاء ) فالسياق هنا لم يكن في بيان الكيفية التي يسمع بها ربنا أو التي يبصر بها , إنما في بيان الترهيب من تضييع الأمانات , فهذه الحركة مكملة للمعنى الذي أنتجته جملة "الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات " , هذه التكملة تصور لك مدى الرقابة , والإحاطة بكل ماتفعله , ولن تجد هذا عند حذف هذا المشهد . المبحث الثاني تصوير العدد بالأصابع " دلالة العقد " روى البخاري ومسلم عن ابن عمر أنه سمع رسول الله – صلى الله عليه وسلم - يقول : " نحن أمة أمية لا نكتب , ولا نحسب , الشهر هكذا وهكذا وهكذا وعقد الإبهام في الثالثة والشهر هكذا وهكذا وهكذا يعني تمام ثلاثين يوما " فحساب الأعداد لم يكن شائعا عند العرب , وكانوا يستعيضون عنه بوسائل حسية منها : استخدام الحصى حتى قيل : ( إن أصل الإحصاء أن الحاسب إذا بلغ عقدا معينا من عقود الأعداد كالعشرة والمائة والألف وضع حصاة ليحفظ بها كمية ذلك العقد فيبنى على ذلك حسابه ) ومنها : حركة اليد والأصابع فيجمعون ويرسلون أصابعهم , ليرسموا بها ما يريدون من أعداد , وتعد هذه الحركات اصطلاحا تعارفوا عليه ( و تواضعوه بينهم ليستغنوا به عن التلفظ , وكان أكثر استعمالهم له عند المساومة في البيع فيضع أحدهما يده في يد الآخر فيفهمان المراد من غير تلفظ لقصد ستر ذلك عن غيرهما ممن يحضرهما . فعقد العشرة – مثلا - أن يجعل طرف السبابة اليمنى في باطن طي عقدة الإبهام العليا , وعقد الثلاثين ان يضم طرف الإبهام إلى طرف السبابة مثل من يمسك شيئا لطيفا كالابرة وكذلك البرغوث , وعقد السبعين ان يجعل طرف ظفر الإبهام بين عقدتي السبابة من باطنها ويلوي طرف السبابة عليها مثل ناقد الدينار عند النقد, وعقد التسعين ان يجعل طرف السبابة اليمنى في أصلها ويضمها ضما محكما بحيث تنطوي عقدتاها حتى تصير مثل الحية المطوقة وقيل : ان صورته ان يجعل السبابة في وسط الإبهام , وفيل : (إن صفة عقد التسعين أن يثني السبابة حتى يعود طرفها عند أصلها من الكف ويعلق عليه الإبهام . وعقد المائة مثل عقد التسعين لكن بالخنصر اليسرى فعلى هذا فالتسعون والمائة متقاربان ولذلك وقع فيهما الشك , واما العشرة فمغايرة لهما .)) وهذا الحساب صار عند العرب كأنه علم يتناقلونه بينهم , ولا يتعارض هذا مع قول النبي السابق : " نحن أمة أمية لا نكتب ولا تحسب " لأن الحساب هنا له معان أخرى أشار إليها العلماء , منها ماقاله بن العربي من أن هذا انما جاء لبيان صورة معينة خاصة , والمراد بنفي الحساب ما يتعاناه أهل صناعته من الجمع والفذلكة والضرب ونحو ذلك ومن ثم قال ولا نكتب ) ويقول الألوسي في روح المعاني ( وأُريدَ بذلك أنهم على أصل ولادة أمهم لم يتعلموا الكتابة والحساب فهم على جبلتهم الأولى فالأمي نسبة إلى الأم التي ولدته وقيل نسبة إلى أمة العرب وقيل : إلى أم القرى والأول أشهر ) ( وقيل إن الحساب هو: حساب النجوم وتسييرها ولم يكونوا يعرفون من ذلك أيضا الا النزر اليسير .. فلم نكلف في مواقيت عباداتنا ما يحتاج فيه إلى معرفة حساب ولا كتابة ) والذي يعنيني هنا هو هذه الحركة , وإظهار العدد من خلال العقد باليدين , والذي فهم منه تراوح الشهر العربي بين تسعة وعشرين يوما , وثلاثين يوما , واقتصار الإخبار في ذلك على حركة اليدين , مع أن لفظ الثلاثين ولفظ التسعة والعشرين لم يكن مجهولا عند العربي, وبخاصة رسول الله – صلى الله عليه وسلم - . وهنا السؤال : لماذا توارى اللفظ هنا وبرزت الحركة , وعقدت الأصابع لتخبر عن عدة الشهر العربي ؟ وهل في اللفظ ضعف عن أداء المراد ؟ أم أن المقام هنا يحتاج إلى وسيلة أخرى للبيان غير اللفظ , وبخاصة أن العرب في الجاهلية تلاعبت بهذه الشهور , حيث (كانوا يجعلون السنة ثلاثة عشر شهرا ومن وجه آخر كانوا يجعلون السنة اثني عشر شهرا وخمسة وعشرين يوما فتدور الأيام والشهور كذلك ....و قيل كانوا يجعلون المحرم صفرا ويجعلون صفرا المحرم لئلا يتوالى عليهم ثلاثة أشهر لا يتعاطون فيها القتال ...وكانوا في الجاهلية على أنحاء منهم من يسمى المحرم صفرا فيحل فيه القتال ويحرم القتال في صفر ويسميه المحرم ومنهم من كان يجعل ذلك سنة هكذا وسنة هكذا , ومنهم من يجعله سنتين هكذا وسنتين هكذا ومنهم من يؤخر صفرا إلى ربيع الأول وربيعا إلى ما يليه ... وهكذا إلى أن يصير شوال ذا القعدة , وذو القعدة ذا الحجة ثم يعود فيعيد العدد على الأصل . وقال الخطابي كانوا يخالفون بين أشهر السنة بالتحليل والتحريم والتقديم والتأخير لأسباب تعرض لهم منها استعجال الحرب فيستحلون الشهر الحرام ثم يحرمون بدله شهرا غيره فتتحول في ذلك شهور السنة وتتبدل فإذا أتى على ذلك عدة من السنين استدار الزمان وعاد الأمر إلى أصله ) هذا التلاعب بالأشهر والزيادة فيها والنقصان جعل الحديث عن عدة الشهر يحتاج إلى وسيلة لا لبث فيها , ولا تأويل , وكأن رسول الله – صلى الله عليه وسلم يهذه الحركة – يخاطب كل ذي عينين , تماما كما تخبر أحدا بمعنى , فيخالفه , فتقوم بتصويره أمام عينه حتى لا تكون له حجة , فالحركة هنا أعلى صوتا , وأظهر حجة , وأفصح لسانا من اللفظ , ولقد برهنت الأبحاث والتجارب أن التعلم يجري في الدماغ عن طريق الحواس التي تزوده بالمعلومات , وثبت أن هذه الحواس ليست على درجة واحدة في قدرتها على تجميع المعلومات وتزويدها للدماغ , وجاءت نسبة مساهمة الحواس على النحو التالي :- ( حاسة البصر 30% ، حاسة السمع 20% ، حاسة الذوق 10% ، حاسة الشم 3.5% ، حاسة اللمس 1.5% ) وهذا يعني أن جميع الحواس تشترك في عملية التعلم مما يجعلها في حالة تيقظ وانتباه فيؤدي ذلك إلى شحذها وتقويتها . وتلحظ أيضا أن نسبة الكلام, التي تمثلها حاسة السمع لم تتعد العشرين في المائة , مما يدل على أن الدلالات والمعاني يصل أغلبها إلى الذهن عن طريق الوسائل , زد على ذلك أن في هذه الوسائل أهمية تفوق قدرة الألفاظ وحدها ومن جوانب هذه الأهمية ما يلي : 1 - تقليل الجهد ، واختصار الوقت . 2- أنها تثير اهتمام وانتباه المتلقي ، وتنمي فيه دقة الملاحظة . 3- تثبت المعلومات ، وتزيد من حفظ المراد ، وتضاعف استيعابه . 4 ـ تنمي الاستمرار في الفكر , واستخلاص المعاني من كل حركة أو سكنة . ووازن أنت بين معنى تلقيته من جملة ملفوظة أو مكتوبة , وبين المعنى نفسه الذي تلقيته من حركة مصورة , أو وسيلة توضيحية ..... تجد فرقا واضحا بين صورة كل منهما في ذهنك , وتمكنه من عقلك , وقدرتك على التعبير عنه , فإذا جمع ين اللفظ والوسيلة , تكون قد جمعت بين الحسنيين . فالحركة منه- صلى الله عليه وسلم - أبلغ في إيصال المعنى المقصود إلى أذهان الحاضرين من مجرد القول , وبخاصة في مثل هذه الأغراض التي كثر فيها اللغط , ولذلك كررت في أكثر من مقام , ففي إيلائه – صلى الله عليه وسلم - نحا هذا النحو في تعريف الشهر , ففي حديث السيدة عَائِشَةَ رضي الله عنها أنه : " أَقْسَمَ أَنْ لا يَدْخُلَ عَلَى نِسَائِهِ شَهْرًا فَمَكَثَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، حَتَّى إِذَا كَانَ مِسَاءَ ثَلاثِينَ دَخَلَ عَلَيَّ فَقُلْتُ إِنَّكَ أَقْسَمْتَ أَنْ لا تَدْخُلَ عَلَيْنَا شَهْرًا، فَقَالَ: الشَّهْرُ هَكَذَا يُرْسِلُ أَصَابِعَهُ فِيهَا ثَلاثَ مَرَّاتٍ وَالشَّهْرُ هَكَذَا، وَأَرْسَلَ أَصَابِعَهُ كُلَّهَا وَأَمْسَكَ إِصْبَعًا وَاحِدًا فِي الثَّالِثَةِ( ومن أهم النماذج التي قام فيها العقد نائبا عن اللفظ ما رواه الإمام مسلم من حديث أبي مالك الأشجعي أن رجلا أتى النبي – صلى الله عليه وسلم , فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أَقُولُ حِينَ أَسْأَلُ رَبِّي؟ قَالَ: قُلْ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَعَافِنِي وَارْزُقْنِي، وَيَجْمَعُ أَصَابِعَهُ إِلا الإِبْهَامَ فَإِنَّ هَؤُلاءِ تَجْمَعُ لَكَ دُنْيَاكَ وَآخِرَتَكَ( . وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : جاء رجل بدوي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله علمني خيرا , قال : قل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر قال : ( وعقد بيده أربعا ) ثم ذهب فقال : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ثم رجع , فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم تبسم وقال : تفكر البائس , فقال يا رسول الله : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر هذا كله لله فما لي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا قلت سبحان الله. قال الله : صدقت وإذا قلت الحمد لله . قال الله : صدقت وإذا قلت : لا إله إلا الله . قال الله : صدقت وإذا قلت: الله أكبر. قال الله صدقت . فتقول : اللهم اغفر لي , فيقول الله : قد فعلت . فتقول : اللهم ارحمني فيقول الله قد فعلت . وتقول : اللهم ارزقني فيقول الله قد فعلت . قال فعقد الأعرابي سبعا في يده ) والمقام هنا في هذين الحديثين مختلف عن غيرهما , فالمخاطب بهذين الحديثين رجلان من الأعراب البدو , وهذا يعني أن استخدام الوسائل الحسية هي اللغة الأقرب إلى طبيعتهما , واللغة التي يفهمها كل منهما , ( فأهل البادية والأعراب يغلب عليهم الجهل والجفاء ولهذا جاء فى الحديث من بدا جفا ) فاستخدام حركة اليد كأنما هو رجوع بالمعنى إلى بدايته الحسية , ليتناسب مع حال المخاطبين ,وأنت تدرك أن هذا العقد يُبقي المعنى حاضرا محسوسا في قلوب الناس , يكررونه كل يوم , فهو ذكر , ودعاء , والمسلم مطالب بهذه الأدعية , وتلك الأذكار صباحا ومساء , فإذا وُضعت هذه الأذكار في يده , وعقدت عليها الأصابع , فكأنما أريد أن تظل هذه الأذكار حاضرة حية محسوسة تجمع له خير الدنيا والآخرة , لذا عدل بالمعنى من اللفظ المنطوق إلى الحركة المحسوسة *************** وهذا العدول تراه بصورة أوضح حين يعبر القرآن الكريم عن عدد خزنة النار من الملائكة في قوله تعالى : " عليها تسعة عشر " .. ثم تجد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يعبر عن هذا العدد بالحركة , وعقد اليدين . وتدبر هذا الحديث الذي يرويه سيدنا جابر بن عبد الله قال : قال ناس من اليهود لأناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هل يعلم نبيكم عدد خزنة جهنم ؟ قالوا لا ندري حتى نسأل نبينا فجاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا محمد غُلِبَ أصحابك اليوم , قال : وبم غلبوا ؟ قال : سألهم يهود هل يعلم نبيكم عدد خزنة جهنم ؟ قال : فما قالوا ؟ قال : قالوا لا ندري حتى نسأل نبينا , قال : أيغلب قوم سئلوا عما لا يعلمون ؟ فقالوا : لا نعلم حتى نسأل نبينا , لكنهم قد سألوا نبيهم فقالوا : أرنا الله جهرة ... عليّ بأعداء الله , إني سائلهم عن تربة الجنة وهي الدرمك , فلما جاءوا قالوا : يا أبا القاسم كم عدد خزنة جهنم ؟ قال : هكذا وهكذا في مرة عشرة , وفي مرة تسع قالوا : نعم " هنا استعاض رسول الله عن اللفظ بالعقد , فما وجه البلاغة في ذلك ؟ إن الإخبار باللفظ يشعر بالمعرفة المجردة ,وكأنما هو خبر ألقي إليه – صلى الله عليه وسلم - , فأخبر به لكن الإخبار بالعقد يشير إلى معرفته لهم بأوصافهم , وأحوالهم , وخصائصهم , وأعمالهم .... إنه إخبار يلوح بمعاينتهم , وإدراكه لكل واحد منهم على حدة , لذلك جاء في رواية " ما بين منكبي احدهما كما بين المشرق والمغرب " فالتحدي في سؤال اليهود جعل الإجابة تأخذ هذا الوجه , ليستيقن الذين أوتوا الكتاب من صدقه , ويزداد الذين آمنوا إيمانا . ************************** ومن بلاغة البيان بالعقد ما روته أم المؤمنين زينب بنت جحش ( قالت استيقظ رسول الله من نومه محمرا وجهه وهو يقول لا إله إلا الله يرددها ثلاث مرات وهو يقول : " ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وعقد عشرا " , أي ليريهم مقدار ذلك الموضع المفتوح ) وحلق أصبعيه والتي تليها .... وقيل : وعقد بيده تسعين , وعقد التسعين أضيق من العشرة ) فشبه صلى الله عليه وسلم قدر ما فتح من السد بصفة معروفة عندهم , وهي عقد الأصابع , ( يعني جعل الإصبع السبابه في أصل الإبهام وضمها حتى لم يبق بينهما إلا خلل يسير والمعنى أنه لم يبق لمجيء الشر إلا اليسير من الزمن ) وهذه الحركة صورت مقدار ما تبقى من الزمن , في سياق يتحدث عن ردم يأجوج ومأجوج , وهو من العظم بمكان , ومهما قلت إنه لم يبق إلا اليسير , وأنهم حفروا حتى خرقوا الجدار , وأن موعد انهدام الجدار قد اقترب , .....إلخ كل هذه الألفاظ لاترقى في تجسيد المعنى , ورسمه , وإشعار السامع باقتراب الأجل مثل هذه الحركة , كما أن الحديث عن جدار , وخرق , وهدم , وهذا يناسبه رسم الجزء المنهدم , وتصويره للعيون , ولذلك كان من البلاغة الاستعاضة عن اللفظ بهذه الوسيلة التعبيرية , يقول ابن ماجة : " وعقد بيده عشرة أي ليريهم مقدار ذلك الموضع المفتوح ." فليس من رأى كمن سمع . الفصل الثاني التعبير بالحال " دلالة الحال " الفرح , والحزن , والغضب , والخوف , والإقبال , والإدبار , والإعراض , والإشاحة , والحياة والموت ..إلخ كل هذه أحوال لها دلالات , تضاف إلى دلالة الألفاظ , أو توضح ما فيها من غموض , وقد تستقل بالمعنى , لأنها أقدر من اللفظ على إيصال المعنى إلى القلوب . يقول الجاحظ وهو يبرهن على دلالة الحال , وقدرتها على حمل المعاني : ( قال خطيب من الخطباء حين قام على سرير الاسكندر وهو ميت: الاسكندر كان أمس انطق منه اليوم , وهو اليوم أوعظ منه امس – يعني أن موته صار أبلغ في عظة الناس من حياته, - .....ومتى دل الشيء على معنى فقد أخبر عنه وان كان صامتا وأشار اليه وان كان ساكتا ) وكان الصحابة ينظرون إلى وجه النبي – صلى الله عليه وسلم فيعرفون من المعاني والدلالات الكثير فتسمعهم تارة يقولون : وَأَبْصَرَ فِى وَجْهِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام الْجُوعَ ...و يقولون : فَتَمَعَّرَ وَجْهُ النَّبِىِّ، عليه السَّلام , و تَلَوَّنَ وَجْهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , و عرف في وجه النبي صلى الله عليه وسلم الكراهية , و رَأَيْتُ وَجْهَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْتَشِرُ .......إلخ وكذا في وجوه الناس وعلى رأسهم صحابة النبي صلى الله عليه وسلم , فحين قرأ سيدنا مصعب بن عمير القرآن على سعد بن معاذ "عُرف في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم به، في إشراقه وتسهله " فللوجوه دلالات تفهم من النظر إليها , حال طبيعتها , وكذا حين تغضب , أو تستبشر , أو تكره , أو تحب ....... إلخ كما أن للوجوه رسائل تلتقطها العيون فتهش لها وترتاح , أو تنقبض وتعرض , ومن كلام العلماء في وجه النبي – صلى الله عليه وسلم – ماذكره النيسابوري في تفسيره : (أن النظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم كافٍ لمن كان له قلب مستنير ، فإذا انضمت الدعوة إلى ذلك كان في الهداية غاية .) ( و جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جاحداً له منكراً , فلما وقع بصره على طلعته قال : والله ما هذا وجه كذاب ،) وعلى العكس حين تنظر إلى وجوه الكافرين تجد انقباضا , وضيقا قد استوليا عليك , ولقد عبر القرآن الكريم عن حالة من حالات وجوه الكافرين فقال : " ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ" المدثر 22 .. ( أي : قطب وجهه لما لم يجد مطعناً يطعن به في القرآن ) فكأن عبوس الوجه كان دليلا على عدم وجود شبهة في القرآن يطعن فيها , وقيل : إن ظهور العبوس في الوجه يكون بعد المحاورة ، وظهور البسور في الوجه قبلها ، والعرب تقول : وجه باسر إذا تغير واسودّ . وقال الراغب : البسر استعجال الشرّ قبل أوانه نحو بسر الرجل حاجته ، أي : طلبها في غير أوانها . قال : ومنه قوله : { عَبَسَ وَبَسَرَ } أي : أظهر العبوس قبل أوانه وقبل وقته ، وأهل اليمن يقولون : بسر المركب وأبسر أي : وقف لا يتقدّم ولا يتأخر ،) , ولا يمكن إغفال هذه الأحوال عند الحديث عن بلاغة نص , أو فصاحة أسلوب , فهي أضواء كاشفة , وأنوار ساطعة على النص لا يمكن قراءة النص دون الرجوع إليها . وفي حديث المعصوم – صلى الله عليه وسلم – كثير من هذه الأضواء , ومن ذلك حديث عدي بن حاتم , وفيه يقول : قال النبي صلى الله عليه وسلم ( اتقوا النار ) . ثم أعرض وأشاح ثم قال ( اتقوا النار ) , ثم أعرض وأشاح , ثلاثا , حتى ظننا أنه ينظر إليها ثم قال ( اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة ) فالإشاحة هنا لها دلالة أخرى غير تحذير الناس من النار , إنها تظهر حذره هو – صلى الله عليه وسلم – من النار , وإبراز هذا الخوف أمام الناس ليستشعروا مدى شدتها , كما أن هذه الإشاحة ترسم مشهدا آخر , وهو نقل التجربة الحسية للناس فالإشاحة بالوجه أخرجت النار إلى حيز الحس , وأمامها رسول الله كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا , ويرى لظاها , وما فيها من لهيب , ثم أسرع فصَرَفَ وَجْهَهُ كَالْخَائِفِ أَنْ تَنَالَهُ , أو كالهارب منها , فلما رأى الناس هذا المشهد انتقل إليهم الحذر الشديد منها , لم لا ورسول الله – صلى الله عليه وسلم , يهرب منها , ويعرض بوجهه عنها , ويفر؟ !! . إنه مشهد تمثيلي تكاملت فيه الألفاظ والصورة لتنقل للمشاهدين أبلغ المعاني التحذيرية من النار , وقام بالمشهد التصويري رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كي لا يأمن أحد بعده من النار , ثم تأتي جملة تربت على القلوب , وتهدئ من الروع , وتبلل الأفئدة بحبل النجاة , وسبيل الخلاص , وهي جملة " فاتقوا النار ولو بشق تمرة ".. إنها جملة أعادت الأرواح إلى القلوب بعد أن بلغت الحلقوم , فما أيسر التمرة , وما أعظم الصدقة , وما أفصح المعصوم – صلى الله عليه وسلم - . *********** ومن المشاهد التي كان يرسمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم – ما روته السيدة عائشة – رضوان الله عليها أنه كان إذا عصفت الريح قال : " اللهم إني أسألك خيرها و خير ما فيها و خير ما أرسلت به , و أعوذ بك من شرها و شر ما فيها و شر ما أرسلت به " . قالت : و إذا تخيلت السماء تغير لونه , و خرج و دخل , و أقبل و أدبر , فإذا مطرت سري عنه , فعرفت ذلك في وجهه . قالت عائشة : فسألته ? فقال : " لعله - يا عائشة - كما قال قوم عاد : *( فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ) والآن دع عنك الكلمات والجمل قليلا , وانظر إلى هذا المشهد ....... سحب قادمة , وريح تعصف , ثم ينظر الصحابة فيرون رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قد تغير لونه , وترك ما يفعله , ولو كان يصلى كما جاء في بعض الروايات , وخرج ودخل , وأقبل وأدبر , وأخذ يلح في الدعاء ....... . ثم تفحص ما يداخلك من معان , تجد هلعا , ورعبا , مع أن المقام مقام استبشار , وتعاهد الناس على البشر حين يرون مثل هذه الغيوم , وهنا تثور في النفوس ما يثور فيها من استغراب , يتحول إلى خوف , وفزع , وترقب , وتسأل السيدة عائشة عن سبب هذه الأحوال , فيجيبها صلى الله عليه وسلم . والإجابة تأخذك إلى هذا الواقع – زمانا ومكانا وأحداثا – ثم تنظر فتجد الآيات تتنزل صباح مساء على قلبه - صلى الله عليه وسلم – تخبره بمصارع السابقين , وتقول له :" فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ "العنكبوت40( ) في هذا الجو ترى رسول الرحمة , الرؤوف الرحيم , الذي جعله ربنا أولى بنا من أنفسنا , تراه لا يهدأ , ولا يركن حتى تزول الغمة , تراه يتغير لونه إشفاقا على أمته من أن يحل بها ما حل بمن قبلها , مع أنه لم يدع على أمته , ولم يظهر تبرما , ولم ييأس من هدايتهم , لكن ما زال هناك مكذبون , مازال هناك من ينكرون نبوته , ورسالته , وما أدراه لعل هؤلاء يكونون سببا للعذاب , ومن هنا لا يُسرّ عنه حتى تنزاح الغمة , وتهدأ الريح , وينزل المطر , وتزول كل المعالم التي كانت مقدمة لإهلاك الأمم السابقة . وتتعجب السيدة عائشة من هذه الحركات , وهذا الاضطراب فتسأل وتقول : (يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الْغَيْمَ فَرِحُوا رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الْمَطَرُ , وَأَرَاكَ إِذَا رَأَيْتَهُ عُرِفَ فِي وَجْهِكَ الْكَرَاهِيَةُ ؟ فَقَالَ يَا عَائِشَةُ مَا يُؤْمِنِّي أَنْ يَكُونَ فِيهِ عَذَابٌ , عُذِّبَ قَوْمٌ بِالرِّيحِ , وَقَدْ رَأَى قَوْمٌ الْعَذَابَ فَقَالُوا : " هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا " ) ********************** ومن دلالة الحال ما يظهر عليه صلى الله عليه وسلم من أمارات الغضب , تبين وقوع البعض في مخالفات نهى عنها , أو أفعال لم يأمر بها , تشديدا على أنفسهم , ورغبة في التقرب إلى الله تعالى والوصول إلى أعلى مراتب الطاعة , وفي كل ذلك يظهر الغضب على وجهه حتى يعرفوا حجم المخالفة . ومن ذلك : ما رواه عبد الله بن أبي بكر عن أبيه أن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ رَجُلًا مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ عَلَى الصَّدَقَةِ فَلَمَّا قَدِمَ سَأَلَهُ إِبِلًا مِنْ الصَّدَقَةِ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى عُرِفَ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ وَكَانَ مِمَّا يُعْرَفُ بِهِ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ أَنْ تَحْمَرَّ عَيْنَاهُ ثُمَّ قَالَ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَسْأَلُنِي مَا لا يَصْلُحُ لِي وَلا لَهُ فَإِنْ مَنَعْتُهُ كَرِهْتُ الْمَنْعَ وَإِنْ أَعْطَيْتُهُ أَعْطَيْتُهُ مَا لا يَصْلُحُ لِي وَلا لَهُ فَقَالَ الرَّجُلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لا أَسْأَلُكَ مِنْهَا شَيْئًا أَبَدًا" وعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنِّي لَأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ مِنْ أَجْلِ فُلَانٍ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا قَالَ فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطُّ أَشَدَّ غَضَبًا فِي مَوْعِظَةٍ مِنْهُ يَوْمَئِذٍ قَالَ فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيَتَجَوَّزْ فَإِنَّ فِيهِمْ الْمَرِيضَ وَالْكَبِيرَ وَذَا الْحَاجَة. وعنْ عَائِشَةَ - رض الله عنها قَالَتْ : رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرٍ فَتَنَزَّهَ عَنْهُ نَاسٌ مِنْ النَّاسِ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَغَضِبَ حَتَّى بَانَ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْغَبُونَ عَمَّا رُخِّصَ لِي فِيهِ فَوَاللَّهِ لَأَنَا أَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً " وقالت : قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرهم من الأعمال بما يطيقون فقالوا إنا لسنا كهيئتك إن الله غفر لك فيغضب حتى يعرف الغضب في وجهه " ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يغضب حتى يحمر وجهه وتدر عروقه لله وفي الله ، وغير ذلك كثير من الأمور التي جمع فيها رسول الله بين الغضب الشديد , وبين الإرشاد بالكلام , فصار الغضب مقاما , يحيط بالكلام , فيوجه دلالته , ويأخذ بناصية المعنى إلى حيث التحذير , فللغضب في مثل هذه المقامات فائدة بيانية , وهي إشعار المخاطب بخطورة الأمر , ليتيقظ , وينتبه أنه يخالف الأمر الشرعي , ويعلم أن في الأمر إنذارا , وخطورة تطلبت الانزعاج ..... ولذلك كان الصحابة رضوان الله عليهم يشفقون من غضبة خشية أن يكون غضبه لأمر يعمهم بعذاب , وعند البخاري " عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ : سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَشْيَاءَ كَرِهَهَا فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةَ غَضِبَ وَقَالَ سَلُونِي فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ : مَنْ أَبِي ؟ قَالَ : أَبُوكَ حُذَافَةُ , ثُمَّ قَامَ آخَرُ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَبِي ؟ فَقَالَ : أَبُوكَ سَالِمٌ مَوْلَى شَيْبَةَ , فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ بن الخطاب مَا بِوَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْغَضَبِ قَالَ : إِنَّا نَتُوبُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . ففي الغضب إنذار , وفي الغضب تحذير , وفي الغضب تشديد , وفي الغضب زجر وتهديد , ولذا جثا سيدنا عمر على ركبتية مسترضيا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حتى ينفضّ هذا الموقف , فكثرة السؤال منهم , تشير إلى وجود شك في رسالته , لذا خرج عليهم غاضبا , وكثرة السؤال منهم تفتح أبوابا من الأولى أن تظل مغلقة , فكانت إجاباته عليهم كلسع اللهب الذي اكتووا منه , فهذا يسأله أين أنا ؟ قال له أنت في النار , وآخر يسأله من أبي ؟ فيخبره عن نسب غير نسبه ..... فكان من حكمة سيدنا عمر أن أسرع بالركوع أمامه واسترضائه لينفض هذا الموقف , ويزول هذا الغم , وقد كان . ****************** . وإذا كان للغضب دلالاته فإن للبشر والسرور والضحك معانيه التي يشعر بها كل من حضر , وشاهد , لأنها حالات ترسل للمتلقي رسائل دلالية مفادها : الرضى الكامل بما حدث , والرغبة في تكرار الأمر الذي بسببه حصل البشر , وإشعار المتلقي بكمال الأمن والطمأنينة , وزوال الخوف والقلق , وكل ذلك معان قامت هذه الوسائل المصاحبة للكلام بإرسالها إلى المتلقي , وقد تستقل بالدلالة دون الكلام ولذلك حين أتت رسل الله إبراهيم بالبشرى جاؤوه في هيئة الأضياف حتى أنه لم يعرفهم , وعبر القرآن الكريم عن الفرح والسرور الذي أحاط بامرأته فقيل "وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) فحين زال خوفها ضحكت تعبيرا عن سرورها , فكأنها أرادت أن تعبر عن كمال رضاها بالبشرى , وقبولها لهذه البشارة , وكمال الطمأنينة التي أحاطت بها بعد الخوف , فلم تتكلم بهذه المعاني بل أرسلتها من خلال الفرح والسرور والضحك . وقد يكون الضحك أمارة على تصديق القول كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم : عن عبد الله بن مسعود، قال: كنا عند رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، حين جاءه حبر من أحبار اليهود، فجلس إليه، فقال له النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم:"حَدِّثْنا، قال: إن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة، جعل السموات على أصبع، والأرضين على أصبع، والجبال على أصبع، والماء والشجر على أصبع، وجميع الخلائق على أصبع ثم يهزهنّ ثم يقول: أنا الملك، قال: فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر ) وأنكر العلامة ابن حجر أن يكون الضحك تصديقا لكلام الحبر , وذهب إلى أنه إنكار لما قال , وتكذيبا له , وسواء كان الضحك تصديقا – وهذا ما أراه – أو تكذيبا كما قال العلامة ابن حجر , فالذي يعنيني هنا أن الضحك كان وسيلة بيانية , فهم منها الصحابة معنى لم يدل عليه بالكلام . وَقَدْ اِشْتَدَّ إِنْكَار اِبْن خُزَيْمَةَ عَلَى مَنْ اِدَّعَى أَنَّ الضَّحِك الْمَذْكُور كَانَ عَلَى سَبِيل الْإِنْكَار ، فَقَالَ بَعْد أَنْ أَوْرَدَ هَذَا الْحَدِيث فِي " كِتَاب التَّوْحِيد " مِنْ صَحِيحه بِطَرِيقِهِ قَدْ أَجَلَّ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهَ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَنْ يُوصَف رَبّه بِحَضْرَتِهِ بِمَا لَيْسَ هُوَ مِنْ صِفَاته فَيَجْعَل بَدَل الْإِنْكَار وَالْغَضَب عَلَى الْوَاصِف ضَحِكًا ، بَلْ لَا يُوصِف النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الْوَصْف مَنْ يُؤْمِن بِنُبُوَّتِهِ ، وَقَدْ وَقَعَ الْحَدِيث الْمَاضِي فِي الرِّقَاق عَنْ أَبِي سَعِيد - رَفَعَهُ " تَكُون الْأَرْض يَوْم الْقِيَامَة خُبْزَة وَاحِدَة يَتَكَفَّؤُهَا الْجَبَّار بِيَدِهِ كَمَا يَتَكَفَّؤُ أَحَدُكُمْ خُبْزَته " الْحَدِيث ، وَفِيهِ أَنَّ يَهُودِيًّا دَخَلَ فَأَخْبَرَ بِمِثْلِ ذَلِكَ فَنَظَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَصْحَابه ثُمَّ ضَحِكَ .) وعلق النووي على ذلك فقال : (ظَاهِر الْحَدِيث أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَّقَ الْحَبْر فِي قَوْله : إِنَّ اللَّه تَعَالَى يَقْبِض السَّمَوَات وَالْأَرْضِينَ ، وَالْمَخْلُوقَات بِالْأَصَابِعِ ، ثُمَّ قَرَأَ الْآيَة الَّتِي فِيهَا الْإِشَارَة إِلَى نَحْو مَا يَقُول ، قَالَ الْقَاضِي : وَقَالَ بَعْض الْمُتَكَلِّمِينَ : لَيْسَ ضَحِكه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعَجُّبه وَتِلَاوَته الْآيَة تَصْدِيقًا لِلْحَبْرِ ، بَلْ هُوَ رَدّ لِقَوْلِهِ ، وَإِنْكَار وَتَعَجُّب مِنْ سُوء اِعْتِقَاده ، فَإِنَّ مَذْهَب الْيَهُود التَّجْسِيم ، فَفُهِمَ مِنْهُ ذَلِكَ ، وَقَوْله تَصْدِيقًا لَهُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ كَلَام الرَّاوِي عَلَى مَا فُهِمَ ، وَالْأَوَّل أَظْهَر . ) ولعلك تدرك أن هذه الخلاف يرجع إلى مذهب كل رأي في الأسماء والصفات , فابن حجر يؤول , والآخرون يقبلون ما ورد دون تشبيه , وسواء كان هذا أم ذاك فموضوعنا على دلالة الضحك إما على التصديق , وإما على الإنكار , وكلا الرأيين يثبت دلالة الضحك على المعاني . ومن أبرز النماذج التي ترسخ قدرة الضحك على حمل المعاني ما أخرجه الإمام أحمد عن عمرو بن العاص، رضي الله عنه، أنه قال لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم عام ذات السلاسل قال: احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد , فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك ، فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، قال: فلما قدمتُ على رسول الله صلى عليه وسلم ذكرت ذلك له، فقال: "يا عمرو صَلَّيت بأصحابك وأنت جُنُبٌ ؟!! !" قال: قلت يا رسول الله : إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلكَ، فذكرت قول الله "عزوجل" { وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } فتيممت ثم صليت. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا.) وعدم التعليق بالكلام هنا , والاقتصار على الضحك دليل على إجازة ما فعله سيدنا عمرو بن العاص , وإرشاد لغيره بانتهاج هذا المنهج , فالدين يسر لا عسر , وتقدير الأحوال , والنظر في العواقب , والأخذ بالرخص عند الضرورة منهج أقره رسول الله صلى الله عليه وسلم بضحكه من فعل سيدنا عمرو , وقد علق ابن حجر على ذلك فقال : ( لَمْ يَلُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْرًا ، فَكَانَ ذَلِكَ تَقْرِيرًا دَالًّا عَلَى الْجَوَاز ) وكان صاحب عون النعبود أكثر صراحة في الإشارة إلى دلالة الضحك حيث قال : ( فِي الحديث دَلِيل عَلَى جَوَاز التَّيَمُّم عِنْد شِدَّة الْبَرْد مِنْ وَجْهَيْنِ : الْأَوَّل : التَّبَسُّم وَالِاسْتِبْشَار ، وَالثَّانِي : عَدَم الْإِنْكَار ، لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُقِرّ عَلَى بَاطِل ، وَالتَّبَسُّم وَالِاسْتِبْشَار أَقْوَى دَلَالَة مِنْ السُّكُوت عَلَى الْجَوَاز .) فكأن الضحك هنا دليل قوي على جواز ما فعله سيدنا عمرو بن العاص رغم أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يقل ذلك , لكن الضحك أغنى عن الكلام , وحل محله , ودل على إصابة سيدنا عمرو في استنتاجه واستدلاله . الفصل الثالث البيان بالوسائل الخارجية ( الخط – الحصى – العصى ) المبحث الأول : البيان بالخط ما سبق كان بيانا عن المعاني بوسائل من داخل الجسد , باليد , أو الوجه , ,أو الأحوال , لكن رسول الله – صلى الله عليه وسلم قد يجمع مع اللفظ وسيلة بيانية أخرى , يستخدم من خلالها الخطوط المرسومة , أو الحصباء , أو أعواد الحطب , وكل وسيلة من هذه الوسائل ترسم للمعنى طريقه , وتأخذ بناصيته . وأول هذه الوسائل الخط , ولا أعني بالخط هنا الكتابة , وتحويل المنطوق إلى كلمات مكتوبة كما أرشد النبي – صلى الله عليه وسلم الرجل الأنصاري الذي لا يحفظ أن يكتب مايسمعه وإنما أعني بالخط هنا الوسائل الإيضاحية التي تُرسم , فتكون معينة للمتلقي على تصور المعنى والإحاطة به , ولقد أصبحت هذه الوسائل التي ترسم للمتعلمين هي الأبرز والأقوي في التأثير , والأسرع في إيصال المعلومة إلى السامع , لأنها مصحوبة بالمشهد , فهي ترسم المعني المنثور في جمل وعبارات كثيرة من خلال صورة تلتقطها العين دفعة واحدة فتصل إلى الذهن كاملة الهيئة , مجسدة الملامح , فتراها العين فتنقلها على عجل إلى الذهن , وهذا عكس الكلمات المسموعة التي تنقلها الأذن إلى الذهن فيلهث خلف تحليلها , وتصورها ثم فهمها , واستيعاب المراد منها . وقارن أنت بين صورة مرئية أمام العين , وبين التعبير عنها من خلال الكلمات حتى تدرك الفرق بين ما حصله الذهن من هذا ومن ذاك . ولقد حفلت السنة الشريفة بهذه الوسائل التى أرشد إليها المعصوم – صلى الله عليه وسلم – في كثير من توجيهاته , وهذه بعض النماذج : عن ابن مسعود – رضي الله عنه خطًا مربعًا وخط خطًا في الوسط خارجًا منه ، وخط خططًا صغارًاr- قال : خط النبي إلى هذا الذي في الوسط ، من جانبه الذي في الوسط ، وقال : هذا الإنسان ، وهذا أجله محيط به -أو قد أحاط به- ، وهذا الذي هو خارج : أمله ، وهذه الخطط الصغار : الأعراض ، فإن أخطأه هذا ، نهشه هذا ، وإن أخطأه هذا ، نهشه هذا . وخل عنك الصورة , وتدبر الكلام وحده , ستجد الذهن قد أخذ وقتا , وبذل جهدا كبيرا , في تحصيل المعنى , ولن يأتيك المعنى كما جاءك بعد أن ضممت إلى اللفظ الصورة , وجعلتها له عونا ونصيرا , ولا شك أن الجمع بين هذه الصورة , وما بسطه رسول الله من كلام , أحدث في النفس قاعدة لا تنسى , هذه القاعدة رسمت في الذهن أن ( الأجل أقرب إلى الإنسان من الأمل ) , وصارت هذه القاعدة صورة محفورة أمام العيون , تراها في حلها وترحالها , حيث جاء التمثيل بالصورة في أعقاب المعني كما قال الإمام عبد القاهر – رحمه الله - , ولو أننا نظرنا إلى هذه الوسائل كلها في هذا البحث لوجدناها داخلة في علم البيان حيث تحولت الكلمات والمعاني إلى صور مرقومة , ومشاهد مرسومة , وتلك حقيقة علم البيان . ************** ومن أبرز النماذج التي استخدمها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – خطا وخط عن يمينrلتوضيح المعاني ما رواه سيدنا عبد الله بن عباس قال خط رسول الله الخط وعن شماله خططا ثم قال هذا صراط الله مستقيما وهذه السبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم قرأ ﴿وأن هذا صراطي مستقيما﴾ . وفي الصورة تلحظ ما يلي : 1 – أن طريق الرشد طريق واحد , أما طرق الضلال فمتعددة 2 – أن طرق الضلال ملتبسة بطريق الرشد وقريبة منه حتى ليخيل للناظر أنها هو فهي به محيطة , تقترب منه تارة , وتبعد عنه أخرى , مما يستدعي التأني والنظر في العاقبة . 3 - أن طريق الرشد طريق مستقيم , لا يتلون بزمان ولا مكان , ولا أشخاص 4 – أن طرق الضلال قد تبدو أيسر , وأشد اختصارا من طريق الحق . 5 – أن السبل في بدايتها زينة وإغواء من الشيطان , لذا قيل: على كل سبيل منها شيطان , لكن عاقبتها فرقة واختلاف , أما سبيل الله تعالى فهو سبيل اعتصام , فحين تجد الطريق يؤدي بك إلى الفرقة فاعم أنه طريق شيطان , وهذه من أمارات سبل الضلال . وهذه المعاني تدركها جميعا من خلال الصورة المرسومة دفعة واحدة , وتتأكد لديك كلما راجعت الصورة , وكررت النظر , فكأن الصورة التوضيحية هنا أضافت للكلام بعدا آخر وهو ترسيخ المعاني , وإبرازها في شكل مختلف عن الكلمات المسموعة , وهذا مما يثير النفس ويحفزها , وينبهها إلى ما ينبغي أن تسلك , لأن في الأمر إشكالا , وتزيينا من الشيطان , والتباسا تنخدع به النفوس , يقول الإمام أبو حامد الغزالي : (والمشكل أن الأبواب المفتوحة إلى القلب للشيطان كثيرة وباب الملائكة باب واحد، وقد التبس ذلك الباب الواحد بهذه الأبواب الكثيرة فالعبد فيها كالمسافر الذي يبقى في بادية كثيرة الطرق غامضة المسالك في ليلة مظلمة فلا يكاد يعلم الطريق إلا بعين بصيرة وطلوع شمس مشرقة. والعين البصيرة ههنا هي القلب المصفى بالتقوى. والشمس المشرقة هو العلم الغزير المستفاد من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مما يهدي إلى غوامض طرقه، وإلا فطرقه كثيرة وغامضة. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً خطا وقال " هذا سبيل الله " ثم خط خطوطاً عن يمين الخط وعن شماله ثم قال " هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه " ثم تلا " وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل " لتلك الخطوط فبين صلى الله عليه وسلم كثرة طرقه.) فكأن الصورة تضع أمام السامع العلامات الإرشادية التي تهديه إلى طريق الله , طريق الرشاد. ( قال القاضي أبو الفرج: وهذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم والتمثيل من أبين الأقوال البليغة وأفصحها، وأرصن الأمثال البليغة المضروبة الصحيحة وأوضحها، وذلك أنه خط خطاً جعله مثل الصراط في استقامته إذ لا زيغ فيه ولا ميل، ثم خط خطوطاً يمنة وشأمة آخذه في غير سمته وجهته، تفرق بمن سلكها واتبعها عن السبيل التي هي سبيل الهدى، والنجاة من مرديات الهوى، وبهذا جاء وحي الله وتنزيله في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، قال: جل ذكره: " شرع لكم من الدين ما وصي به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه " فدل هذا على مثل ما دلت عليه الآية التي تلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخبر الذي رويناه فقال تعالى: " إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء " وقال: " فتقطعوا أمرهم بينهم زمراً كل حزب، بما لديهم فرحون " في كثير مما يضاهي هذا المعنى ) ****************** ومن نماذج الخط في الأرض لتعليم السامعين , وتمثيل المعاني أمام الناظرين ما رواه سيدنا عبد الله ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ :) خَطَّ رَسُولُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ خُطُوطٍ، قَالَ: تَدْرُونَ مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ أَفْضَلُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ؛ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَمَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ أَجْمَعِينَ(. وقد جاء تفضيل هؤلاء الأربعة في رواية أخرى تتحدث عن القدوة , وأنهن بلغن درجة الكمال لمن أرادت المثل الأعلى بين نساء الدنيا , والحديث يرويه سيدنا أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه "قَالَ حَسْبُكَ مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ .") وتثور هنا عدة أسئلة :وهي هل هناك أوجه شبه بين النساء الأربع ؟ وهل هناك تفاضل بين الأربعة ؟ وما الذي أضافته الصورة المرسومة للمعنى ؟ وللإجابة على السؤال الأول : أقول نعم , وإلا لما جمعن تحت راية الكمال والخيرية , فهن جميعا قدوة لكل من أرادت من النساء قدوة لها , ولو أن الكمال في الرجال وحدهم لتعللت النساء بأنهن لا قدوة لهن , لكن في كل واحدة من الأربع قدوة , فمن أرادت القدوة في التبتل والانقطاع للطاعة , والعفاف فمريم تكفيها , ومن أرادت القدوة في الصبر على أذى الزوج فآسية تكفيها , ومن أرادت القدوة في رعاية زوجها وعونه , وتربية الأولاد , فخديجة تكفيها , ومن أرادت القدوة في الخير كله ففاطمة تكفيها , ويؤكد هذا قوله " حسبك من نساء العالمين مريم ....إلخ َيْ الْوَاصِلَةِ إِلَى مَرَاتِبِ الْكَامِلِينَ فِي الِاقْتِدَاءِ بِهِنَّ وَذِكْرِ مَحَاسِنِهِنَّ وَمَنَاقِبِهِنَّ وَزُهْدِهِنَّ فِي الدُّنْيَا وَإِقْبَالِهِنَّ عَلَى الْعُقْبَى – رضي الله عنهم أجمعين . وفي رسم الخطوط الأربعة دون تفضيل , أو تمييز إشارة واضحة إلى أن الأربعة سواء , فكل منهن سبيل مستقيم لكل من أرادت أن تسلك طريق الكمال . فالروايات لم تذكر إلا أربعة خطوط دون إشارة إلى زيادة إحداها على الأخرى , أو استقامة خط دون آخر , وهذا يجرنا إلى إجابة السؤال الثاني , حيث رأى البعض أن هناك تفاضل بين الأربعة , وهناك من تتقدم الصف , مع الإقرار بأنهن أفضل النساء , فالمقدمة على الأربعة هي مريم ابنة عمران , لقول الله تعالى " إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين ".) لكني أميل إلى رأي الإمام النووي حيث قال : ( الْأَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا خَيْرُ نِسَاءِ الْأَرْضِ فِي عَصْرِهَا ، وَأَمَّا التَّفْضِيلُ بَيْنَهُمَا فَمَسْكُوتٌ عَنْهُ .) ويؤكد هذا أن الروايات المتنوعة جاءت بتقديم كل واحدة منهن مرة , فعند ابن كثير قدمت السيدة خديجة ثم فاطمة ثم مريم ثم آسية . وعند الإمام أحمد روايتان الأولى قدمت فيها السيدة مريم فالسيدة خديجة فالسيدة فاطمة فالسيدة آسية , والأخرى قدمت فيها السيدة خديجة . لكن الملاحظ أن السيدة خديجة والسيدة فاطمة اقترنتا في جميع الروايات سواء في المقدمة , أو في الوسط , أو في الخاتمة . وأقصد من هذا : أن التفاضل لم يكن مقصودا من رسم الخطوط ,فلم يشر إلى أن الخط الأول هو كذا , والثاني كذا ... , ولم يشر أيضا إلى استواء , أو اعوجاج , ولم يشر إلى طول خط دون آخر , إنما فقط أربعة خطوط , فالكل سواء , وهذا يعني أن ا المقصود – كما أفهم – الإشارة إلى السيادة , والكمال , والخيرية , والقدوة للجميع , رضي الله عنهن جميعا المبحث الثاني البيان بالحصى قلت إن إيصال المعلومة إلى المتلقي واضحة جلية هو هدف من أهداف البلاغة العربية , وحين تعبر عن معنى ما , ثم تستعين بوسيلة من وسائل الإيضاح , فليس معنى ذلك أن اللفظ قد عجز عن حمل المراد , وإنما تريد أن تنقل للمتلقي مدى أهمية المعنى , وخطورته,وحرصك على وصوله إليه دون لبس أو غموض , لأجل ذلك تستعين بكل وسيلة توضيحية , لتكشف عن مرادك . ولا شك أن المتكلم يستعين بما يراه متاحا أمامه من وسائل,وكلما تعددت الوسائل , وتنوعت زاد البيان عن المعاني , وأنا هنا أدعو كل من يتصدي للتعليم والبيان أن يسلك هذا السبيل , وأن يستفيد من شتى الوسائل التوضيحية التي ملأت الدنيا – سواء منها المسموعة أو المرئية - كما تعلمنا من النبي صلى الله عليه وسلم . وتعال معي نقف على واحد من هذه الأحاديث , فعن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال :قَالَ النَّبِيّ – صلى الله عليه وسلم - هَلْ تَدْرُونَ مَا هَذِهِ وَمَا هَذِهِ؟ (وَرَمَى بِحَصَاتَيْنِ ) قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: هَذَاكَ الأَمَلُ، وَهَذَاكَ الأَجَلُ ( يقول المناوي في معنى الحديث : ( قَوْلُهُ : " مَا مَثَلُ هَذِهِ وَهَذِهِ " : أيْ هَذِهِ الْحَصَاةِ وَهَذِهِ الْحَصَاةِ ( وَرَمَى بِحَصَاتَيْنِ ) أَيْ : إِحْدَاهُمَا قَرِيبَةٌ وَالْأُخْرَى بَعِيدَةٌ , وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ . ( هَذَاك )أَيْ هَذَا الْحَصَاءُ الْمَرْمِيُّ بَعِيدًا ( الْأَمَلُ ) . أَيْ : مَرْجُوُّهُ وَمَأْمُولُهُ الَّذِي يُظَنُّ أَنَّهُ يُدْرِكُهُ قَبْلَ حُلُولِ أَجَلِهِ . ( وَهَذَاك ) , أَيْ الْحَصَاءُ الْمَرْمِيُّ قَرِيبًا :( الْأَجَلُ ).أَيْ: مَوْتُهُ فَيَشْتَغِلُ الْإِنْسَانُ بِمَا يَأْمُلُهُ وَيُرِيدُ أَنْ يُحَصِّلَهُ فَيَلْحَقُهُ الْمَوْتُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَهُ .) فالحديث ينقل للمتلقي بعد المسافة بين الأمل والأجل , وكان من الممكن أن يقال : إن الأمل بعيد جدا , والأجل قريب جدا , وهكذا ينتقل المعنى من خلال اللفظ إلى الذهن , فيقوم الذهن بتصور المسافة الفارقة بينهما , ويظل المعني حبيس كل واحد بحسب مايراه من بعد بين الأجل والأمل , لكن رسول الله سلك طريقا آخر للبيان وهو طريق التمثيل الحسي , فأشرك الصحابة معه في تصوير المعنى ,حيث عاينوا بأنفسهم هذا البعد بين الأمرين , فأخذ حصاتين ,ثم رمى بالأولى في جهة,وبالأخرى في الجهة المقابلة,ثم حرك الأذهان,واستثارها بالسؤال عن هذا الذي يرونه أمامهم,من بعد بين الحصاتين,وهنا أصبح الذهن في أتم الاستعداد لتلقي المعنى دون لبس,فقال:" هذاك " بالإشارة إلى البعيد الأمل " وهذاك" بالإشارة أيضا إلى البعيد: الأمل ,فلقد اتسعت المسافة بينهما , وهاهم يرون ذلك عيانا , وليس الخبر كالمعاينة . ************************* ومن نماذج استخدام الحصى في البيان عن المعاني ما رواه سيدنا أبو سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ قالَ:) دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم -فِي بَيْتِ بَعْضِ نِسَائِهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْمَسْجِدَيْنِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى؟ قَالَ: فَأَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصْبَاءَ فَضَرَبَ بِهِ الأَرْضَ ثُمَّ قَالَ: هُوَ مَسْجِدُكُمْ هَذَا..لِمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ ( ولقد حصل الخلاف في تعيين المسجد الذي أسس على التقوى , فقيل إته مسجد قباء , لقوله بعده " فيه رجال يحبون أن يطهروا " وقيل إنه مسجد الرسول – صلى الله عليه وسلم - لصريح هذا الحديث في تعيينه , والحق كما قال ابن حجر ( أن كلا منهما أسس على التقوى , وقوله تعالى في بقية الآية " فيه رجال يحبون أن يطهروا " يفيد أن المراد مسجد قباء ... – فتعارض ظاهر الآية مع صريح الحديث - , وعلى هذا فالسر في جوابه بأن المسجد الذي أسس على التقوى مسجده – صلى الله عليه وسلم -رفع توهم أن ذلك خاص بمسجد قباء) وهذه لفتة جليلة من الإمام ابن حجر , فلما كان هناك لبس في تعيين المسجد بسبب قوله " فيه رجال يحبون أن يطهرو , لنزولها في أهل قباء كان التأكيد بأنه مسجد المدينة , وبضرب الأرض بالحصياء رافعا لكل توهم ومزيلا لكل شك , ونافياً لكل ريب , حيث نقل إلى المتلقي المعنى مصحوبا بمشهد تصويري لا يدع لأحد بعده شك في أن المسجد المراد هو مسجد النبي – صلى الله عليه وسلم - في المدينة ,وقد كان الإمام النووي أكثر صراحة في التعبير فقال : ( هذا نص بأنه – يعني مسجد المدينة – المسجد الذي أسس على التقوى , وردّ لما ذكره بعض المفسرين أنه مسجد قباء , وأما أخذه الحصباء وضربه في الأرض فالمراد به المبالغة في الإيضاح لبيان أنه مسجد المدينة ) المبحث الثالث البيان بالعصى تظل العصى هي الوسيلة الأكثر شيوعا في يد المتحدثين , فبها يُشار , وبها يُخط , وبها يصور المعنى المراد ويرسم , وقد جاء مثل ذلك في حديث النبي – صلى الله عليه وسلم – ومن أبرز النماذج في ذلك مارواه سيدنا أنس بن مالك أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِشَجَرَةٍ يَابِسَةِ الْوَرَقِ فَضَرَبَهَا بِعَصَاهُ فَتَنَاثَرَ الْوَرَقُ فَقَالَ إِنَّ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ لَتُسَاقِطُ مِنْ ذُنُوبِ الْعَبْدِ كَمَا تَسَاقَطَ وَرَقُ هَذِهِ الشَّجَرَةِ ) وروى القرطبي عن قتادة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ غصنا فخرطه , حتى سقط ورقه وقال: " إن المسلم إذا قال سبحان الله , والحمد لله , ولا إله إلا الله , والله أكبر , تحاتت خطاياه , كما تحات هذا. خذهن إليك أبا الدرداء , قبل أن يحال بينك وبينهن , فإنهن من كنوز الجنة , وصفايا الكلام , وهن الباقيات الصالحات" والقارئ يدرك الفرق بين إلقاء المعنى مجردا , وبين الاستعانة بهذا العود , أو تلك العصى , فالنظر إلى هذه الشجرة وورقها يتناثر أمام العيون , ويذهب يمنة ويسرة متباعدا عنها يحفر في الذهن صورة المعنى المراد توصيلة , وهو أن هذه التسبيحات تصنع في الإنسان ما صنعته العصى فهي تهز الجسد هزا شديدا فتطرح عنه خبثه من الذنوب والخطايا , وتفرقها عنه , حتى لا تعود بينها وبين الجسد علاقة . كذلك الحال في الصورة الثانية التي أزال فيها رسول الله الأوراق بيده , فالقصد من الصورتين إيصال هذا المشهد إلى الذهن ليرى الذنوب والخطايا وهي تتساقط بفعل هذه التسبيحات .فالذهن حين يرى المعنى مصورا أمامه يفسح له بابا ليستقر فيه , فالمعاني المصورة تدخل إليه دخول المأنوس به , و يزيد من هذا الأنس ما يحصل في كثير من النماذج من استثارة وتنشيط بالسؤال , ومن ذلك ما رواه سيدنا أبو سعيد الْخُدْرِيِّ) أَنَّ النَّبِيَّ غَرَزَ بَيْنَ يَدَيْهِ عودا , ثُمَّ غَرَزَ إِلَى جَنْبِهِ آخَرَ ثُمَّ غَرَزَ الثَّالِثَ فَأَبْعَدَهُ. ثُمَّ قَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَا هَذَا؟ قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: هَذَا الإِنْسَانُ وَهَذَا أَجَلُهُ، وَهَذَا أَمَلُهُ، يَتَعَاطَى الأَمَلَ وَالأَجَلُ يَخْتَلِجُهُ دُونَ ذَلِكَ ( فقضية الأجل والأمل , وهي ملخص الحياة البشرية , كانت شاغلة بال رسول الله صلى الله عليه وسلم , فصورها مرة بالخطوط , وصورها أخرى بالحصى , وهاهو يصورها هنا بالغرز في الأرض لكن الأحاديث كلها متوافقة على أن الأجل أقرب من الأمل , وفي كل مشهد يخرج المعنى صارخا في الناس بصوت جديد , فهو تارة يقول إن الأمل يذهب بعيدا , في الوقت الذي يأتي الأجل ليقطعه قبل اكتماله , وتارة أخرى يظهر في صورة الشيئين المتنافرين , فهذا يذهب في جهة وهذا يذهب في جهة مقابلة , كما جاء في صورة الحصى . أما هنا فالصورة المرسومة تشكلت من خلال غرز الأعواد في الأرض , وأنا هنا استحضر هذا المشهد , فالرسول صلى الله عليه وسلم جالس , وحوله الصحاية فيأخذ عودا فيغرسه في الأرض , ثم يأخذ آخر فيغرسه بجواره , ثم يأخذ ثالثا فيغرسه بعيدا , وهنا يكتمل المشهد , ويبقى البيان , والتحليل , لكن رسول الله لا يبدأ التحليل مباشرة , بل يثير العقول , ويلفت الانتباه , من خلال السؤال " أتدرون ما هذا ؟ " والصحابة لا تعرف ما المقصود من هذه الصورة , فيجيبون بالنفي , فيقول - صلى الله عليه وسلم – موضحا وهم ينظرون إلى هذا المشهد البياني , هذا – يقصد العود القريب – الإنسان , وهذا – يقصد العود الذي بجواره – هو أجله , فالإنسان والأجل متقاربان , فالأجل أقرب إليه من شراك نعله , وهنا يرتسم في عقل كل مشاهد هذا التلازم بين الإنسان وأجله , .... ولكن ما هذا العود البعيد ؟ وقبل السؤال تأتي الإجابة , إنه الأمل , الذي يشتط فيه الإنسان , فيرسمه بعيدا وشتان بين الإنسان وأمله . والتعبير عن الإنسان وأمله وأجله بالغرس المغروس في الأرض , يشير إلى أن هذه الثلاثة ثابته , لا تتغير حقائقها , فكأنها مغروسة في علم الغيب الذي لا يتبدل , فالأجل مع الإنسان متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر , وكذلك الأمل لكل إنسان بعيد المنال أن يحققه في دنياه , فكل إنسان له آمال عراض تيقى معه مادام حيا , ولكن هيهات أن تتحقق جميعا . الخاتمة ****** الحمد لله , والصلاة والسلام على رسول الله , وعلى آله وصحبه ومن والاه , وبعد : فهذا بحث بلاغي أردت من خلاله أن أفتح الباب لنوع من البيان ظل زمنا طويلا حبيس النصوص الشريفة , ولم يأخذ حظه من النظر مثلما أخذت الألفاظ والجمل . إنه بحث في الوسائل المصاحبة للألفاظ , ودورها في حمل المعاني , ولقد تبين من خلال ذلك أن هذه الوسائل جزء لا ينفك عن الألفاظ بأي حال , إذ لا يمكن لأحد أن يتكلم إلا وهو مستحضر , مستعينا بها , معتمدا عليها في كثير من الأوقات . كما تبين أن هذه الوسائل تقوم مقام التشبيه والاستعارة , والتوكيد بأنواعه , فهي ليست بعيدة عن عالم البلاغة , بل هي جزء منه , وإن لم تكن من عالم الألفاظ . فهذه الوسائل تمثل البيئة التي تحيا فيها اللغة , وهي جزء من السياق والمقام المحيط بالألفاظ , وكلما كانت هذه البيئة غنية مترعة كانت اللغة أعلى شأنا , وأوفر معنى , وأوسع دلالة . كما أن هذه الوسائل تحمل من خصائص البيان الكثير , مثل الإيجاز , وهو روح البلاغة ومعدنها, وتقليل الجهد , واختصار الوقت , وإشراك المتلقي في تحرير المعنى.
شكرا لك ..كنت ابحث عن مثل ذلك
ردحذف........................سنوب الحسناء
جزيت خيراً على مرورك المعطر. وإن شاء الله ستجدين ما يسرك بإذن الله.
حذف