موجز البلاغة
للعلامة الشيخ الإمام محمد الطاهر بن عاشور
قام بصف الكتاب
أبو عمر آل عبدالمنعم
بناء على طلب شيخه
عبدالرحمن الكوني
تقريض الكتاب
بقلم العلامة الجليل الأستاذ الأكبر الهمام مولانا الشيخ سيدي محمد بن يوسف شيخ الإسلام الحنفي أبقى الله النفع به.
حمداً لمن نظم جواهر البلاغة بأسلاك البيان، وألهم كل بليغ لمقتضى الحال والشان، وأكرم من شاء بفضيلة الإحسان، والكلم الحسان، وصلاة وسلاماً على سيدنا ومولانا محمد أفصح من نطق بالضاد من بني معد وعدنان، المؤيد بالقرآن، الذي أعجز مصانع البلغاء من قاص ودان، فلم يكن لهم في معارضته يدان، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الفصحاء الجلة الأعيان، وبعد فقد أجلت النظر في غضون هذه الرسالة الوجيزة، والدرة الثمينة العزيزة، فوقفت منها على روضة زاهرة زاهية، قطوفها دانية لا تسمع فيها لاغية، فيها من تقريب العبارة، وتوضيح الإشارة، ما تتلقاه المدركة بمجرد الالتفات، ولا تخشى فيه الحافظة الفوات، معززة القواعد بمختارات الشواهد، وفرائد الفوائد، إلى اعتبارات لطيفة، وتحقيقات شريفة، وأنها لتبصرة للناشئين، وتذكرة للشادين والمتبصرين، جديرة بالتخصيص، لأن تكون مبدأ لدراسة التلخيص، حسنة من حسنات ذلك الهمام ناشراً لوية العلوم، وكشاف غوامض المفهوم، مدبج صفحات المهارق ببدائع التحبير والتحرير، العلامة الجهبذ الأستاذ الدراكة النحرير، صفوة الخيرة أبي عبد الله الشيخ سيدي محمد الطاهر ابن عاشور شيخ الإسلام المالكي أدام الله فضله، وكم له في الفنون من يد حميدة، ومصنفات رائقة مفيدة، متع الله الأمة بمواهبه العلمية، ومحرراته العبقرية، بمنه تعالى وكرمه كتبه الفقير إلى ربه محمد بن يوسف شيخ الإسلام الحنفي لطف الله به في 12 ربيع الثاني سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة وألف.
قرار النظارة العلمية
الحمد لله أما بعد فقد قررت النظارة العلمية تدريس موجز علم البلاغة لأهل السنة الأولى في المرتبة المتوسطة عوضاً عن رسالة الوضع وكتب في 10 جمادى الأولى وفي 10 سبتمبر سنة 1351 – 1932.
محمد بن يوسف، محمد الطاهر ابن عاشور، محمد الطيب بيرم، صالح المالقي.
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه
هذا موجز علم البلاغة
أما بعد حمداً لله الذي أنطق البلغاء وفضّل النبغاء، وميزهم عمن يُسِرُّ حَسْوًا في ارتغاء، والصلاة والسلام على المرسل بالحنيفية لا أمت فيها ولا شُغَاء، وكل من صغى إلى دعوته أفضل صغاء، فإني رأيت طلبة العلم يزاولون علم البلاغة بطريقة بعيدة عن الإيفاء بالمقصود إذ يبتدؤون بمزاولة رسالة الاستعارات لأبي القاسم الليثي السمرقندي وهي زبدة مستخلصة من تحقيقات المطول والمفتاح يحتسونها قبل إبانها ثم يتناولون مختصر التفتازاني قبل أن يأخذوا شيئا من علم المعاني وفي ابتدائهم شوط وفي انتقالهم طفرة فرأيت أن أضع لهم مختصراً وجيزاً يلم بمهمات علم البلاغة ليكون لهم كالمقدمة لمزاولة دروس مختصر التفتازاني وضعته وضع من يقصد إلى تثقيف طلبة هذا العلم بالمسائل النافعة المجردة عن المباحث الطفيفة في فنون البلاغة الثلاثة فإن هم أتقنوه فهماً ضمنت لهم أن ينطقوا بلسان فصيح، ويملأوا أوطاب أذهانهم من المحض الصريح.
مقدمة
البلاغة فعالة مصدر بلُغ بضم اللام كفقه وهو مشتق من بلَغ بفتح اللام بلوغاً بمعنى وصل وإنما سمي هذا العلم بالبلاغة لأنه بمسائله وبمعرفتها يبلغ المتكلم إلى الإفصاح عن جميع مراده بكلام سهل وواضح ومشتمل على ما يعين على قبول السامع له ونفوذه في نفسه فلما صار هذا البلوغ المعنوي سجية يحاول تحصيلها بهذا العلم صاغوا له وزن فعُل بضم العين للدلالة على السجية فقالوا علم البلاغة ([1]) فإن المتكلم إذا تكلم فإنما اهتمامه بأن ينقل ما في ضميره إلى ذهن سامعه فهو محتاج قبل كل شيء إلى معرفة اللغة التي يريد أن يخاطب بها من مفرداتها وكيفية تركيبها فإذا لم يعلم ذلك لم يكد كلامه أن يفهم وهذه المعرفة تحصل له من علم اللغة والنحو والصرف فإن حاول تكلمها بدون هذه المعرفة كان مثله كما قال الحطيئة في الشعر ((يريد أن يعربه فيعجبه))([2]) ولكنه إذا علم اللغة والنحو والصرف فإنما يستطيع أن يعبر عن حاصل المراد وأصل المعنى ولا يستطيع أن يفصح عن تمام المراد فلو أراد أن يخبرك بحضور تلميذ واحد من تلامذة درسه وتخلف الباقين فقال لك حضر زياد لم تفهم إلا أنه أخبرك بحضور زياد لئلا تكتبه متخلفاً ثم إذا علمت أن بقية التلامذة لم يحضروا فقلت له: ما بالك لم تخبرني بعدم حضور أنس ونافع وغيرهما؟ قال لك: ألستُ قد أخبرتك بحضور زياد ولم أذكر لك غيره؟ فدلك بقوله ذلك على قصوره في معرفة أداء جميع مراده على أنه لو تنبه لزيادة البيان لقال حضر زياد ولم يحضر أنس لم يحضر نافع لم يحضر زهير وأخذ يعدد بقية التلامذة أو استعان بحركة يديه فقال لك حضر زياد ثم ضرب بيديه كالنافض لهما كأنه يشير إلى معنى فقط فحينئذ أدى جميع مراده لكن بعبارة غير سهلة ومع إشارة فإذا كان قد علم الكيفية الخصوصية للتعبير عن هذا المراد وهي أن يقول ما حضر إلا زياد كان قد بلغ إلى أداء جميع مراده بكلام سهل وكذا إذا أراد أن يخبرك عما أبلاه عنترة من الشجاعة والفتك في يوم من أيامه فجعل يقول قتل فلاناً وجرح فلاناً وضرب فلاناً وضرب الفرس فأدماه وهرب راكبه وسبى نساءهم وحطم مشاتهم فإنه قد دلك على جميع مراده بعبارة غير واضحة في الدلالة على جميع المراد بكلام واضح الدلالة عليه، ولما كانت الكيفيات المذكورة لا تقع إلا في كلام خاصة أهل اللسان العربي سموها بالخصوصيات نسبة إلى الخصوص وهو ضد العموم الذي هو بمعنى الجمهور وتسمى بالنكت أيضاً.
فالعلم الباحث عن القواعد التي تصير الكلام دالاً على جميع المراد وواضح الدلالة عليه يدعى علم البلاغة، ثم إن هنالك محسنات للكلام متى اشتمل عليها اكتسب قبولاً عند سامعه ولما كان حسن القبول يبعث السامع على الإقبال على الكلام بشراشره وكان في ذلك عون على إيعاء جميع المراد جعلوا تلك المحسنات اللفظية من لواحق مسائل هذا العلم سواء كان حسنها عارضاً للفظ من جهة موقعه المعنوي([3]) كالمطابقة في قول أبي ذؤيب الهذلي:
أما والذي أبكى وأضحك والذي | | أمات وأحيى والذي أمره الأمر |
أم كان حسنها عارضاً له من جهة تركيب حروفه كالجناس في قول الحريري:
سِمْ سِمَةً تحمد آثارها | | واشكر لمن أعطى ولو سِمْسِمَة |
فكلها تسمى المحسنات وتوابع البلاغة ويلقبونها بالبديع.
فانحصر على البلاغة لذلك في ثلاثة فنون فن المعاني وهو المسائل التي بمعرفتها يستطيع المتكلم أن يعبر عن جميع مراده بكلام خاص، وسمي علم المعاني لأن مسائله تعلمك كيف تفيد معاني كثيرة في ألفاظ قليلة، أما بزيادة لفظ قليل يدل على معنى حقه أن يؤدى بجمل مثل صيغة إنما في الحصر، وكلمة إن في التأكيد ورد الإنكار معاً وأما بأن لا يزيد شيئاً ولكنه يرتب الكلام على كيفية تؤدي بذلك الترتيب معنى زائداً مثل تقديم المفعول والظرف لإفادة الحصر في نحو: الله أحد، وإياك نعبد وهذا الفن هو معظم علم البلاغة، وفن البيان وهو المسائل التي بمعرفتها يعرف وضوح الدلالة على المراد كقولك: عنترة أسد، وحاتم كثير الرماد، وفن البديع وهو المسائل التي تبحث عن المحسنات اللفظية كما تقدم.
فتعريف علم البلاغة هو العلم بالقواعد التي بها يعرف أداء جميع التراكيب حقها وإيراد أنواع الشبيه والمجاز والكناية على وجهها وإيداع المحسنات بلا كلفة مع فصاحة الكلام.
(تاريخه) كان هذا العلم منثوراً في كتب تفسير القرآن عند بيان إعجازه وفي كتب شرح الشعر ونقده ومحاضرات الأدباء من أثناء القرن الثاني من الهجرة فألف أبو عبيدة معمر بن المثنى المتوفى سنة 144 كتاب مجاز القرآن وألف الجاحظ عمر وبن بحر المتوفى سنة 344 كتباً كثيرة في الأدب وكان بعض من هذا العلم منثوراً أيضاً في كتب النحو مثل كتاب سيبويه ولم يخص بالتأليف إلا في أواخر القرن الثالث إذا ألف عبد الله بن المعتز الخليفة العباسي (المولود سنة247 والمتوفى سنة296 قتيلاً بعد أن بويع له بالخلافة ومكث يوما واحداً خليفة) كتاب البديع أودعه سبعة عشر نوعاً وعد الاستعارة منها).
ثم جاء الشيخ عبد القاهر الجرجاني الأشعري الشافعي المتوفى سنة 471 فألف كتابيه دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة أولهما في علم المعاني والثاني في علم البيان فكانا أول كتابين ميزا هذا العلم عن غيره ولكنهما كانا غير ملخصين ولا تامي الترتيب فهما مثل در متناثر كنزه صاحبه لينظم منه عقداً عند تأخيه فانبرى سراج الدين يوسف بن محمد بن علي السكاكي الخوارزمي المعتزلي المولود سنة 555 والمتوفي سنة 626 إلى نظم تلك الدرر فألف كتابه العجيب المسمى مفتاح العلوم في علوم العربية وأودع القسم الثالث منه الذي هو المقصود من التأليف مسائل البلاغة دونها على طريقة علمية صالحة للتدريس والضبط فكان الكتاب الوحيد اقتبسه من كتابي الشيخ عبد القاهر ومن مسائل الكشاف في تفسير القرآن للزمخشري فأصبح عمدة الطالبين لهذا العلم وتتابع الأدباء بعده في التأليف في هذا العلم الجليل.
فن المعاني
المعاني علم يعرف به أحوال اللفظ العربي التي بها يكون بليغاً فصيحاً في أفراده وتركيبه([4]) فالفصاحة أن يكون الكلام خالصاً أي سالماً مما يعد عيباً في اللغة بأن يسلم من عيوب تعرض للكلمات التي تركب منها الكلام أو تعرض لمجموع الكلام([5]) فالعيوب العارضة للكلمات ثلاثة الغرابة، وتنافر الحروف، ومخالفة قياس التصريف، والعيوب العارضة لمجموع الكلام ثلاثة التعقيد ([6]) وتنافر الكلمات، ومخالفة قواعد النحو ويسمى ضعف التأليف.
أما الغرابة فهي قلة استعمال الكلمة في متعارف أهل اللغة أو تناسيها في متعارف الأدباء مثل الساهور اسم الهلال ومثل تكأكأ بمعنى اجتمع وافر نقع بمعنى تفرق في قول أبي علقمة أحد الموسوسين وقد أصابه صرع فأحاطت به الناس (( مالكم تكأكأتم علي كما تكأكأون على ذي جنة افر نقعوا))([7]) وأما تنافر الحروف فهو ثقل قوي في النطق بالكلمة لاجتماع حروف فيها يحصل من اجتماعها ثقل نحو الخعخع نبت ترعاه الإبل وأقل منه في الثقل مستشزرات بمعنى مرتفعات وأما الثقل الذي لا يضجر اللسان فلا يضر نحو وسبحه وقول زهير * ومن هاب أسباب المنايا ينلنه*
وأما مخالفة قياس التصريف فهو النطق بالكلمة على خلاف قواعد الصرف.
كما يقول في الفعل الماضي من البيع بَيَعَ لجهله بأن حرف العلة إذا تحرك وانفتح ما قبله يقلب ألفا.
وأما التعقيد فهو عدم ظهور دلالة الكلام على المراد لاختلال في نظمه ولو كان ذلك الاختلال حاصلا من مجموع أمور جائزة في النحو كقول الفرزدق يمدح إبراهيم بن هشام المخزومي خال الخليفة هشام بن عبد الملك
وما مثله في الناس إلا مملكا | | أبو أمه حي أبوه يقاربه |
أراد وما مثله في الناس حي يقاربه أي في المجد إلا ملكاً أبو أم الملك أبو هذا الممدوح فشتت أوصال الكلام تشتيتاً تضل فيه الأفهام([8]) وأما التنافر فهو ثقل الكلمات عند اجتماعها حين تجتمع حروف يعسر النطق بها نحو قول الراجز الذي لا يعرف.
وقبر حرب بمكان قفر | | وليس قرب قبر حرب قبر |
فكل كلمة منه لا تنافر فيها وإنما حصل التنافر من اجتماعها حتى قيل إنه لا يتهيأ لأحد أن ينشد النصف الآخر ثلاث مرات متواليات فلا يتلعثم لسانه.
وأما مخالفة قياس النحو فهو عيب كبير لأنه يصير الكلام مخالفاً لاستعمالات العرب الفصحاء فهو يعرض للمولدين والمراد منه مخالفة ما أجمع النحاة على منعه أو ما كان القول بجوازه ضعيفاً ووروده في كلام الغرب شاذاً نحو تعريف غير في كقول كثير من طلبة العلم الغير كذا ونحو تقديم التأكيد على المؤكد في قول المعري
تعب كلها الحياة فما أعــ | | ـجب إلا من طامع في ازدياد |
وكذلك كل ما جوزه في ضرورة الشعر إذا وقع شيء منه في النثر فضعف التأليف عيب لا يوجب إنبهام المعنى بخلاف التعقيد.
والبلاغة اشتمال الكلام على أحواله خصوصية([9]) تستفاد بها معان زائدة على أصل المعنى([10]) بشرط فصاحته كاشتمال قوله تعالى: ((فقالوا إنا إليكم مرسلون)) على حالة خصوصية وهي التأكيد بأن لإفادة معنى زائد وهو توكيد الخبر لأجل إبطال تردد المخاطبين فيه وذلك أمر زائد على أصل المعنى وهو الإعلام بكونهم رسلاً الذي يكفي لإفادته أن يقال أرسلنا إليكم أو نحن إليكم مرسلون وتسمى هذه الأحوال الخصوصية بالنكت وبالخصوصيات وهي تكثر وتقل في الكلام بحسب وجود الدواعي والمقتضيات من كثرة وقلة كالأدوية فإنها تشتمل على عقاقير كثيرة تارة وقليلة أخرى بحسب ما يحتاجه المزاج لإصلاحه، انظر مثلاُ قوله تعالى: ((هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور)) فنجد في قوله ((ينزل)) خصوصيتين: إحداهما التعبير بصيغة ((فعَّل)) الدالة على التكرير، والثانية التعبير بصيغة المضارع الدالة على التجدد والاستمرار لأن المقام للتبشير بزيادة الإخراج من الظلمات إلى النور يوماً فيوماً وفي كل حال، وانظر قوله في الآية الأخرى ((نزل عليك الكتاب بالحق)) فلا تجد في ((نزل)) إلا خصوصية واحدة وهي التعبير بصيغة (فعل) لأن المقام للامتنان، والامتنان يكون بما وقع لا بما سيقع والبليغ في إتيانه بهذه الأحوال في كلامه يراعي أحوال المخاطبين ومقامات الكلام([11]) فلا يأتي بنكتة وخصوصية إلا إذا رأى أن قد اقتضاها حال المخاطب واستدعاها مقام الكلام وبمقدار تفاوت المتكلمين في تنزيلها على مواقعها يتفاوت الكلام في مراتب البلاغة إلى أن يصل إلى حد الإعجاز الذي يعجز البشر عن الإتيان بمثله وهو الذي اختص به نوابغ بلغاء العرب مثل امرئ القيس والنابغة والأعشى وسحبان في أكثر كلامهم.
وحيث كانت البلاغة يتصف بها الكلام باعتبار إفادته عند التركيب والإسناد فلا جرم إن كان ملاك الأمر فيها راجعاً إلى ما يتقوم به الإسناد وكذلك كيفيات الإسناد والمسند إليه والمسند ثم تتفرع البلاغة في متعلقاتها من المعمولات أحوال الجمل وسيجيء كل نوع من ذلك في بابه.
باب الإسناد
الإسناد ضم كلمة إلى أخرى ضما يفيد ثبوت مفهوم أحداهما لمفهوم الأخرى نحو حاتم كريم وأكرم حاتماً، أو انتفاءه عنه نحو ما خالد جباناً ولا تقاتل خالداً سواء كان بالتعيين أم بالترديد([12]).
وحكم ما يجري مجرى الكلمة نحو الضمير المستتر والجملة الواقعة خبراً حكم الكلمة([13]) فالكلمة الدالة على المحكوم عليه ما تسمى مسنداً إليه والكلمة الدالة على المحكوم به تسمى مسنداً والحكم الحاصل من ذلك يسمى الإسناد ولكل من المسند إليه والمسند والإسناد عوارض بلاغية تختص به.
عوارض الإسناد وأحواله
شاع أن الإسناد من خصائص الخبر فلذلك كثر أن يصفوه بالخبري بناء على أن الإنشاء كالأمر والنهي والاستفهام لا إسناد فيه والتحقيق أن الإسناد يثبت للخبر والإنشاء فإن في الجمل الإنشائية مسنداً ومسنداً إليه فالفعل في قولك أكرم صديقك مسند والضمير المستتر فيه مسند إليه.
واعلم أن القصد الأول للمخبر من خبره هو إفادته المخاطب الحكم([14]) وقصد المتكلم بالجملة الإنشائية إيجاد مدلول الإنشاء ففي الأمر يقصد إيجاد المأمور به ويسمى الامتثال وفي النهي يقصد عدم إيجاد الفعل ويسمى الانكفاف وفي الاستفهام يقصد الجواب بالإفهام وهكذا.
وقد يخاطب بالخبر من يعلم مدلوله ويخاطب بالإنشاء من حصل منه الفعل المطلوب فيُعلم أن المتكلم قصد تنزيل الموجود منزلة المعدوم لنكتة قد تتعلق بالمخاطب أما لعدم جري العالم على موجب علمه كقول عبد بني الحسحاس.
* كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً* فإن المقصود منه تذكير من لم يزعه الشيب والإسلام إذ قد علم كل الناس إنهما وازعان، وأما لأن حاله كحال ضده كقولك للتلميذ بين يديك إذا لم يتقن الفهم يا فتى فإنك تطلب إقباله وهو حاضر لأنه كالغائب، وأما لقصد الزيادة من الفعل نحو ((يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله)) فطلب منهم الإيمان بعد أن وصفهم به لقصد الزيادة والتملي منه وأما لاختلال الفعل حتى كان غير مجد لفاعله مثل قوله صلى الله عليه وسلم للذي رآه يصلي ينقر نقر الديك ((صل فإنك لم تصل)) وهذا كثير في كلامهم، وقد تتعلق النكتة بالمتكلم ليريك أنه عالم بالخبر كقولك لصاحبك سهرت البارحة بالنادي وقول عنترة
إن كنت أزمعت الفراق فإنما | | زُمَّت ركابكم بليل مظلم |
وعلامة هذا أن يكون الكلام دالاً على أن المخاطب لا يجهل الخبر فإنك إذا حدثته عن أحواله لا تقصد أن تعلمه بما هو معلوم لديه.
وللكلام في قوة الإثبات والنفي مراتب وضروب بحسب قد الحاجة في إقناع المخاطب، فإن كان المخاطب خالي الذهن من الحكم ولا تردد له فيه فلا حاجة إلى تقوية الكلام، وإن كان المخاطب متردداً في الحكم فالحسن أن يقوى له الكلام بمؤكد لئلا يصير تردده إنكاراً كما قال الله تعالى: ((فقالوا إنا إليكم مرسلون)) لأنهم كذبوا الرسولين الأولين فلما عززا بثالث كان القوم بحيث يترددون في صدقه.
وإن المخاطب منكرا وجب توكيد الخبر على قدر الإنكار نحو ((إني لكم نذير مبين)) ونحو((إنا إليكم مرسلون)) ونحو ((ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون)) ويسمى الضرب الأول ابتدائيا. والثاني طلبيا والثالث إنكاريا.
وأدوات التوكيد إن وأن ولام الابتداء، ولام القسم، والقسم، والحروف الزائدة، وحروف التنبيه، وضمير الفصل ولن النافية هذه في الأسماء وقد وإما الشرطية ونون التوكيد في الأفعال وقد ينزل المخاطب المستحق لأحد هذه الأضرب منزلة صاحب غيره منها لنكتة فيسمى ذلك إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر قال طرفة:
لعمرك إن الموت ما اخطأ الفتى | | لكالطول المرخى وثنياه باليد |
فأتى بثلاث مؤكدات القسم وأن ولام الابتداء لقصد الرد على من كان حاله في لومه إياه على الكرم وتناول اللذات حال من ينكر إدراك الموت إياه مع أن مجيء الموت ولو بعد طول العمر أمر معلوم لكل أحد.
وقد يجيء التوكيد بإن لمجرد الاهتمام بالخبر دون إنكار كقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن من الشعر لحكمة وإن من البيان لسحرا)) ومن ذلك أن يكون في الخبر غرابة كالمثل ((إن البغاث بأرضنا يستنسر)) أو تهويل نحو ((ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون)) لأن شأن هذين النوعين أن ينكرهما السامع فيؤكد له من قبل حصول الإنكار احتياطاً تنزيلاً له منزلة المنكر.
والإسناد نوعان حقيقة عقلية ومجاز عقلي، فالحقيقة العقلية إسناد الشيء إلى شيء هو من الأمور الثابتة له في متعارف الناس إثباتاً أو نفياً الإثبات كقول الصلتان العبدي:
أشاب الصغير وأفنى الكبير | | كر الغداة ومر العشي |
لأن الشاعر جاهلي وظاهر كلامه يشعر بأنه يعتقد أن مرور الزمان هو سبب الشيب إذا لم ينصب قرينه على أنه يعلم أن ذلك ليس سبباً للشيب، والنفي كقوله تعالى: ((وما كانوا مهتدين)) والمجاز العقلي إسناد الشيء إلى غير ما هو له في متعارف الناس إثباتاً أو نفياً لملابسة بين المسند والمسند إليه، ومعنى الملابسة المناسبة والعلاقة بينهما، فأشهر ذلك أن يسند الفعل إلى المتسبب فيه كقوله أم زَرْع ((أناس من حلي أذني وملا من شحم عضدي)) فإن وزجها لما اشترى لها النواس لتلبسه في أذنيها فهو قد أناس أذنيها وهذا قريب من الحقيقة ولما أفاض عليها الخير والراحة حتى سمنت فقد تسبب في ملإٍ عضديها بالشحم، وهذا مجاز عقلي لملابسة السببية وهناك ملابسات كثيرة نحو ((عيشة راضية)) مع أن الراضي صاحب العيشة، ونحو نهر جار مع أن الجاري ماؤه وانبت الربيع العشب لأن الربيع زمن الإنبات، يوماً يجعل الولدان شيباً، ((يوماً عبوساً قمطريراً)) والنفي كقوله تعالى: ((فما ربحت تجارتهم)) فإن نفي الربح لم يتعارف إسناده للتجارة بل إنما يثبت الربح وينفي عن التاجر، وهو محتاج إلى قرينه لفظية أو معنوية ليفارق كلام البليغ كلام الغالط والهاذي والغبي.
عوارض أحوال المسند إليه
المسند إليه هو كاسمه ما ضم إليه غيره كما تقدم مثل المبتدأ، والفاعل، ونائب الفاعل، واسم كان، واسم إن، والأصل أن يكون المسند إليه مذكوراً في الكلام وقد يحذف إذا دلت عليه قرينة نحو قوله تعالى ((فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم)) أي أنا عجوز، أو لضيق المقام نحو قول رفيق الصياد (غزال) أو ليجري اللفظ مجرى المثل فيكون موجزاً نحو -رمية من غير رام- أي رميتك هذه.
والأصل في المسند إليه التعريف لأن الحكم إنما يكون على معروف فيكون المسند إليه معرفة من المعارف الستة المذكورة في النحو، فإذا تعين طريق من تلك الطرق الستة وجب الاقتصار عليه وأن أمكن الإتيان في تعريفه بطريقين فصاعداً كما إذا أمكن التعبير عنه باسمه العلم أو بالموصول وصلته أو بالضمير تخير البليغ في ذلك وهو يراعي ما هو أنسب فقد يختار تعريفه باسمه العلم لأن في الاسم تعظيماً مثل معز الدين والرضا أو فيه إهانة نحو بولان ويسير فيقصد المتكلم الإشارة إلى أن المسمى له حظ من اسمه فلذلك قال الشاعر:
*وفضل يسير في البلاد يسير*
وقال النبي صلى الله عليه وسلم ((عُصَيَّة عصت الله ورسوله))([15]) أو لأن في الاسم محبة وابتهاجها بذكره كما قال...
بالله يا ظبيات القاع قلن لنا | | ليلاي منكن أم ليلى من البشر |
فلم يقل أم هي من البشر ليعيد اسمها([16]).
وقد يختار الموصول لأن الصلة تشعر بمعنى لا يمكن أن يؤدَّى بغير الجملة مثل معنى شعار الصلة بالتفخيم في قوله تعالى: ((فغشيهم من اليم ما غشيهم))، وكاختيار الموصول على المعرف بأل في قول زهير:
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه | | يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم |
فإنه لم يقل: المستسلم مهضوم مثلاُ بل أتى بالموصول ليشير بالصلة إلى علة الحكم وكاختيار المضاف على الاسم العلم في قوله تعالى: ((يا أيها الناس اعبدوا ربكم)).
وقد يؤتى بالمسند إليه نكرة لعدم الداعي للتعريف نحوه ((وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى)) فدل على أن المسند إليه فرد مبهم من جنس ثم يتوصل المتكلم بذلك إلى إفادة التعظيم تارة والتحقير أخرى وقد جمعهما قول مروان بن أبي حفصة([17]):
له حاجب عن كل أمر يشينه | | وليس له عن طالب العرف حاجب |
ويعرف ذلك بالقرينة وسياق الكلام كقول عباس بن مرداس:
وقد كنت في الحرب ذا تدرا | | فلم أعط شيئاً ولم أمنع |
أي لم أعط شيئاً عظيماً بقرينه قوله ولم أمنع.
ومن أهم أحوال المسند إليه حالة تقديم فإن تقديمه وإن كان هو الأصل إلا أن المتكلم قد يشير باختيار تقديمه مع تأتي تأخيره كأن يأتي به مبتدأ مع إمكان الإتيان به فاعلاً إذا كان الخبر فعلاً وكالإتيان به مبتدأ وهو نكرة والخبر فعل مع أن الأصل حينئذ تقديم الفعل كما في قولهم بقرة تكلمت للإشارة إلى أن ذلك للاهتمام بشأنه، أما لأن فيه فالا نحو سعد أتاك وأما للتشويق نحو قول المعري:
والذي حارتْ البرية فيه | | حيوان مستحدث من جماد |
يريد حشر الأجساد، ومما التزمت العرب فيه التقديم لفظ مثل وغير في قولهم ((مثلك لا يبخل وغيرك لا يجود)) إذا أريد أنت لا تبخل وأنت تجود فجعل مثل وغير كناية عن المخاطب ويشيرون إلى هذا الجعل بالتقديم المفيد للاهتمام إذ لا وجه لهذا الاهتمام إلا تنبيه إلى أن المراد بمثل وغير معناهما الكنائي.
عوارض أحوال المسند
قد عرفت أن المسند هو الكلمة المضمومة إلى غيرها لإفادة مدلولها محكوم به لذلك الغير، فالمسند هو: خبر المبتدأ، وفعل الفاعل أو نائبه إذا كان الفعل تاماً، واسم الفعل، والمبتدأ الوصف المستغني بمرفوعه عن الخبر لأن ذلك المبتدأ في قوة الفعل فلذلك عمل في الفاعل، وخبر كان وأخواتها، وخبر أن وأخواتها.
وقد نبهك هذا إلى أن المسند قد يكون اسماً وقد يكون فعلاً فلا جرم أنك تتطلب الفرق بين الداعي للبليغ أن يأتي بالمسند مرة اسماً ومرة فعلاً: فاعلم أنه يأتي به فعلاً إذا أراد التقييد بأحد الأزمنة الماضي والحال والمستقبل على أخصر وجه فيغنيه أن يقول قدم صديقك عن أن يقول قدوم صديقك أمس فيكون الإتيان بالفعل طريقاً من طرق الإيجاز عند إفادة الزمان مع ما في الفعل من إفادة كون الوصف غير ذاتي للمسند إليه ويزيد المضارع فيدل على تجدد الحصول([18]) آناً بعد آن نحو ((الله يستهزئ بهم))، ويأتي البليغ بالمسند اسما عند إرادة عدم التقييد بأحد الأزمنة وإرادة عدم التجدد فقولك زيد منطلق لا تعرض فيه لأكثر من إثبات وصف الانطلاق له فهو شبيه حينئذ بالصفات التي لا دلالة لها على شيء من الحدوث نحو زيد طويل مثال ذلك قوله تعالى حكاية عن المنافقين (( وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤون)) أشاروا إلى أن الاستهزاء بالمؤمنين صفة ملازمة لهم ليست بأمر حادث فيهم.
ثم من أحوال المسند الفعلي أن يقيد بالشرط على معنى أداة من أدواته المذكورة مع معانيها في كتب النحو فلا فائدة في ذكر تفاصيلها في هذا العلم وإنما يتعلق الغرض ببيان الفرق بين الشرط بإن والشرط فإذا لأن النحاة أهملوا فإنهما مشتركتان في الدلالة على أصل التعليق والاستقبال دون زيادة لكن الغالب في الشرط بإن أن يدل على عدم اليقين بوقوع الشرط سواء كان مستقرب الوقوع لكن بلا جزم كقوله تعالى(( وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم)) فإن إيمانهم وتقواهم واقعان ([19]) أو كان مشكوكا في وقوعه ضعيف الاحتمال كقول المعري
فإن استطع في الحشر آتك زائر | | وهيهات لي يوم القيامة إشغال |
وإما إذا فاصلها الدلالة على اليقين بوقوع شرطها نحو(( إذا جاء نصر الله والفتح)) الآية هذا هو الأصل وقد جاء على ذلك قوله تعالى(( فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه)) لأن نعم الله على العباد كثيرة والمصائب نادرة( ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة) وقد تستعمل أن في مقام اليقين لتنزيل اليقين منزلة الشك كما إذا كان حال المخاطب حال من يشك في الأمر اليقين كقول طرفة
ألا أيها ذا الزاجري أحضر الوغى | | ةإن أشهد اللذات هل أنت مخلدي |
فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي | | فدعني أبادرها بما ملكت يدي |
وتستعمل إذا في مقام عدم اليقين كتصور المر المحبوب كثيرا وقوعه لشدة تعلق القلب بكثرته كقول النابغة
إذا تغنى الحمام الورق ذكرني | | ولو ترحلت عنها أم عمار |
واصل المسند التأخير عن المسند إليه. وقد يقدم ليفيد تقديمه قصر المسند إليه على المسند نحو(( لا فيها غول))أي أن عدم الغول مقصور على الكون في خمر الجنة وسيأتي في القصر. وقد شاع عند العرب تقديم أسماء الأعداد عند قصد جمع أشياء ليفيد التقديم تشويقا للمعدود نحو قوله صلى الله عليه وسلم (( سبعة يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله أمام عادل إلخ)) ونحو(( كلمتان حبيبتان إلى الرحمن الحديث)) ونحو قول محمد بن وهيب في مدح المعتصم العباسي
ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها | | شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر |
وهذا كله ما لم يكن التقديم لسبب يحتم التقديم في النحو مثل تقديم أدوات الصدر في نحو كيف أنت وأين اللقاء ومتى الظعن. أو لسبب يعرف أنه لفظي ى غرض فيه لغير اللفظ مثل التقديم لأجل السجع كقول الحريري في المقامة الثانية(( فإذا هو مثافن لتلميذ. على خبز سميذ، وعجل حنيذ وقبالتهما خابية نبيذ)) فتقديم قوله قبالتهما على المسند إليه لقصد السجع إذ لا يحتمل معنى القصر. وأصل المسند التنكير وقد يعرف لإغراض أهمها إفادة القصر كما سيأتي في بابه .
عوارض أحوال متعلقات الفعل
وهي المفاعيل؛ والظروف؛ والمجرورات؛ والحال، والتمييز، وأهم ما يتعلق به غرض البليغ هو أحوال المفاعيل وخاصة المفعول به فإنه الذي تعرض له أحكام الحذف دون غيره من المفاعيل لأنه إذا لم يذكر علمنا أنه محذوف إذ الفعل المتعدي يطلب مفعوله طلبا ذاتيا ناشئا عن وضع معنى الفعل المتعدي فإن الفعل اللازم وضع ليدل على حدث صادر من ذات واحدة والفعل المتعدي وضع ليدل على حدث صادر من ذات ومتعلق بأخرى. أما بقية المفاعيل فإنها إذا لم تذكر لا يوجد دليل يدل على أن المتكلم قصد ذكرها ([20]) ثم حذفها وكذلك أحكام التقديم إنما تغلب مراعاتها في المفعول به.
فإذا لم يذكر المفعول به مع فعله المتعدي إليه ولم تكن قرينة على تقديره فحذفه حينئذ قد يكون لإظهار أن لا غرض بتعليق ذلك الفعل بمفعوله فينزل الفعل حينئذ منزلة اللازم بحيث يكون النطق به ليس إلا لقصد الدلالة على أصل معناه الحدثي إذا لم يجد المتكلم فعلا آخر يدل على ذلك المعنى أو لم يستحضره فحينئذ لا يقدر لذلك الفعل مفعول نحو ((هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون)) وقول البحتري يمدح المعتز بالله العباسي
شجو حساده وغيض عداه | | أن يرى مبصر ويسمع واعي |
فلم يذكر مفعول يرى ويسمع لأنه أراد أن يوجد راء وسامع فلا غرض لمعرفة مفعول. والمعنى أن الرأي لا يرى إلا آثار الخليفة الحسنى والسامع لا يسمع إلا ثناءه. وقرينة ذلك قوله شجو حساده.لأن ذلك هو الذي يشجو حساده ويغيض عداه وقد يكون الحذف لقصد التعميم مثل(( والله يدعو إلى دار السلام)) أي يدعو كل أحد وإنما قلنا آنفا(( ولم تقم قرينة على تقديره)) لأنه إن كان المفعول مقدار منوي اللفظ فهو كالمذكور والقرينة أما من نفس الفعل بأن يكون مفعوله معينا لأنه لا يتعدى إلا إليه كقول عمرو بن معد يكرب
فلو أن قومي انطقتني رماحهم | | نطقن ولكن الرماح أحبرت |
فإن فعل أجر معناه شق اللسان فمفعوله متعين.وإما بأن يكون عليه قرينة لفظية وهو كثير.
وأما تقديم المفعول وما معناه كالجار والمجرور والظرف فقد يكون للحصر نحو(( إياك نعبد)) وفي الحديث الصحيح(( ففيهما فجاهد)) يعني الأبوين([21]) وهو كثير في كلامهم. وقد يكون لمجرد الاهتمام نحو(( وأما ثمود فهديناهم)) في قراءة النصب وقد يكون لغرض لفظي كالسجع والفاصلة في نحو(( ثم الجحيم صلوه. ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه)).
القصر([22])
القصر تخصيص حكم بمحكوم عليه بحيث لا يثبت ذلك الحكم لغير ذلك المحكوم عليه. أو تخصيص محكوم عليه بحكم بحيث لا يتصف ذلك المحكوم عليه بغير ذلك الحكم بواسطة طريقة مختصرة تفيد التخصيص قصدا للإيجار فخرج بقولنا بواسطة طريقة مختصرة إلخ نحو قول السموأل
تسيل على حد الظبات نفوسنا | | وليست على غير الظبات تسيل |
فإن هذا المثال اقتضى تخصيص سيلان النفوس أي الدماء بالكون على حد الظبات لكن ذلك ليس مدلولا بطريقة مختصرة بل بجملتي إثبات ونفي.
والمراد بالحكم والمحكوم عليه الأمر المقصود قصره أو القصر عليه سواء كان أحد ركني الإسناد نحو(( ما محمد إلا رسول الله )) أم كان متعلق أحدهما كالمجرور المتعلق بالمسند في قول كعب بن زهير
لا يقع الطعن إلا في نحورهم | | وما لهم عن حياض الموت تهليل |
فقصر وقوع الطعن على الكون في نحورهم وكالحال المخصصة للمسند إليه نحو: إنما الشاعر زهير راغبا. إذا أردت قصرا أدعائيا في حالته هذه( لقولهم: زهير إذا رغب،والنابغة إذا رهب، والأعشى إذا طرب، وعنترة إذا ركب).
وكالظروف في قول عمر بن أبي ربيعة
فقالت وألقت جانب الستر إنما | | معي فتحدث غير ذي رقبة أهلي |
أي إنك لا تتحدث الآن إلا معي فقل ما شئت. فالمخصوص بشيء يسمى مقصورا والمخصوص به شيء يسمى مقصورا عليه والمقصور هو الذي لا يتجاوز المقصور عليه لغيره والمقصور عليه هو الذي لا يشاركه غيره في الشيء المقصور. فالاختصاص والحصر مترادفان.
والقصر إما القصر موصوف على صفة بمعنى أن لا يتجاوز الموصوف تلك الصفة إلى صفة أخرى. وأما القصر صفة على موصوف والمراد بالصفة والموصوف هنا الحكم والمحكوم عليه لا الصفة المعروفة في النحو.
وطرق القصر ستة وهي: النفي مع الاستثناء، وإنما ، والتقديم، لما لحقه التأخير من مسند ومفعول ومعمول فعل. والعطف بلا وبل ولكن. أو ما يقوم مقام العطف من الدلالة على الاستدراك لإثبات بعد نفي أو عكسه. وتعريف المسند. وتوسيط ضمير الفعل. وهذه أمثلتها على الترتيب: قول لبيد
وأما المرء إلا كالشهاب([23]) وضوئه | | يحور رمادا بعد إذ هو ساطع |
وقوله تعالى(( إنما حرم عليكم الميتة)) . وقوله تعالى (( لكم دينكم ولي دين)) وقوله تعالى(( إياك نعبد وإياك نستعين)) وفي ذلك(( فليتنافس المتنافسون)) .
ومثال طريق العطف بلكن بعد الواو قوله تعالى(( ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما)) وكذا قوله تعالى(( من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله)) فهو قصر بعد قصر لأن قوله (( إلا من أكره)) أخرج المكره من الكافر ثم أخرج منه من شرح بالكفر صدرا فالتقدير من كفر بالله مكرها لا غضب عليه ولكن من شرح بالكفر صدرا. وأعلم أن هذه الآية فيها ثلاثة طرق من طرق القصر. ومثال العطف بلا(( اللهم حوالينا ولا علينا)) فالواو زائدة والمعنى لا تنزل المطر إلا حوالينا.
وأما طريق تعريف المسند فأعلم أن التعريف الذي يفيد القصر هو التعريف بلام الجنس فإذا عرف المسند بها أفاد قصر الجنس على المسند إليه نحو(( أنت الحبيب)) قصر تحقيق و ((هو العدو)) قصر إدعاء(( والحزم سوء الظن بالناس)) قصر قلب (( إن شانئك هو الأبتر)) كذلك.
وإما توسيط ضمير الفصل فنحو(( ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عبادة)) ونحو(( كنت أنت الرقيب عليهم)) و(( أن ترن أنا أقل منك مالا وولدا)) وضمير الفصل هو ضمير يتقدم على الخبر ونحوه. ولا يفيد أكثر مما أفادته النسبة لعدم الحاجة إليه في ربط.
وأعلم أن طريق النفي والاستثناء وإنما والعطف بلا وبل ولكن؛ متعينة للقصر. وإما التقديم وتعريف المسند والفصل فقد تكون للقصر وقد تكون لغيره ولكن الغالب كونها للقصر فيستدل عليه منها بمعونة القرائن في المقام الخطابي.
والقصر نوعان حقيقي واضحي لأن التخصيص لشيء إن كان مبنيا على أنع كذلك في الواقع ونفس الأمر فهو القصر الحقيقي. وإن كان مبنيا على النظر لشيء آخر يقابل الشيء المخصص به فقط لإبطال دخول ذلك المقابل فهو قصر إضافي تدل عليه القرينة. فالأول كقولك إنما الخليفة فلان. الثاني كقولك إنما الكاتب زيد أي إلا عمرو ردا على من زعم أن عمرا كاتب ولا تريد أن زيد هو الكاتب في الأرض أو في البلد دون غيره والحزم سوء الظن بالناس أي ليس حسن الظن بحزم ولم يرد أن الحزم كله في سوء الظن. ومن القصر الحقيقي ما يسمى بالادعاءي وهو أن تدعي قصر الصفة على الموصوف لقصد المبالغة نحو قوله تعالى(( أن يدعون من دونه إلا إناثا)) مع أنهم دعوا هبل ويغوث ويعوق لكنهم لما أكثروا دعوة اللت والعزى ومناة جعلوا كالذي لا يدعو إلا إناثا. وقوله في حق المنافقين(( هم العدو فاحذرهم)) مع أن المتظاهرين بالشرك والكفر أعداء لكن لما كانت مضرة عداوة المنافقين أشد جعلت عداوة غيرهم كلا عداوة.
الإنشاء
الكلام كله إما خبر أو إنشاء. فالخبر هو الكلام الذي يحتمل الصدق والكذب بأن يكون للنسبة المعنوية التي تضمنها الكلام خارج أي وجود في نفس الأمر يوافقها تارة ولا يوافقها أخرى. فإن وافقها الخارج فهي صادقة وإن خالفها فهي كاذبة لأن الخبر يقصد منه حكاية ما في الوجود الخارجي فلا جرم لزم عرض نسبته على ما في الخارج. فإن نشأ عن ذلك العرض علم بأنها مطابقة بل هي مخالفة للخارج فهي كاذبة.
والإنشاء الكلام الذي ل يحتمل الصدق والكذب لأنه لم يقصد منه حكاية ما في الخارج بل هو كاسمه أحداث معنى بالكلام لم يكن حادثا من قبل في قصد المتكلم. وكل ما تقدم من الأحكام في الأبواب الماضية يجري في الخبر والإنشاء فلا غرض لذكر باب يخص الإنشاء هنا إلا للتنبيه على الفرق بينه وبين الخبر وللإشارة إلى أحكام قليلة بلاغية تختص بالإنشاء.
ينقسم الإنشاء إلى قسمين طلبي وغير طلبي. فالطلبي هو الأمر، والنهي،والاستفهام، والتمني، والترجي، والنداء. وغير الطلبي. القسم، والتعجب، وإنشاء المدح والذم نحو نعم وبئس. وإنشاء الوجدانيات كالتحسر والفرح والترحم. وصيغ العقود نحو أبيع وأشهد. والأجوبة الدالة على الامتثال كجواب النداء نحو لبيك وسمعا وطاعة. وصيغها وأدواتها وأحكامها مقررة في النحو. وإنما الذي يهم البليغ من أحوال الإنشاء مسائل:
الأولى- قد يأتي الإنشاء في صورة الخبر وهو ما يعبرون عنه بالخبر المستعمل في الإنشاء مثل استعماله في الدعاء في نحو(( رحمه الله)) . وفي الطلب نحو قول الظمئان إني عطشان. والتحسر نحو قول جعفر بن علبة الحارثي
هواي مع الركب اليمانين مصعد | | جنيب وجثماني بمكة موثق |
والسؤال نحو(( رب لما أنزلت إلي من خير فقير)) .
الثانية- يستعمل بعض صيغ الإنشاء في بعض فيجيء الأمر للتمني نحو قول امرئ القيس
ألا أيها الليل الطويل ألا انجل | | بصبح وما الإصباح منك بأمثل |
فقوله انجل تمن. وللتعجب نحو قوله تعالى(( انظر كيف ضربوا لك الأمثال)) ويجيء الاستفهام للنهي نحو((اتخشوهم فالله أحق أن تخشوه)) . وللأمر نحو(( فهل أنتم منتهون)). وللتعجب نحو(( وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام)) .
ويجيء النداء للتعجب في باب الاستغاثة نحو قول امرئ القيس
فيا لك من ليل كأن نجومه | | بكل مغار الفتل شدت بيذبل |
(تنبيه) هذه الاستعمالات المذكورة في المسألتين من قبيل المجاز المركب المرسل. والعلاقة العامة في جميعها هي اللزوم ولو بعيدا. وقد تتطلب لبعض استعمالاته علاقات أخرى بحسب المواقع.
المسألة الثالثة- قد تستعمل صيغ الإنشاء في من حاله غير حال من يساق إليه ذلك الإنشاء كأمر المتلبس بفعل بأن يفعله نحو(( يا أيها الذين آمنوا)) . وكنهي من لم يتصف بفعل عن أن يفعله نحو(( ولا تحسبن لله غافلا عما يعمل الظالمون)).
والقصد من ذلك طلب الدوام. فينزل المتصف منزلة غير المتصف تحريضا على الدوام على الاتصاف. وكنداء المقبل عليك نحو قولك للسامع يا هذا. ونداء من لا ينادى بتنزيله منزلة من ينادى نحو(( يا حسرة على العباد)) أي احضري فهذا موضعك. وهذه مجازات ظاهرة وتفريعها سهل.
هذا نهاية القول في الأبواب المختصة بذكر الأحكام البلاغية التي تعرض للمفردات في حال تركيبها. ومن الأحكام ما هو عارض للجمل المؤتلف منها الكلام البليغ تفريقا وجمعا وتطويلا واختصارا. وقد خص لذلك بابان: باب الوصل والفصل وباب الإيجاز والإطناب والمساواة. وها انذا شارع فيهما إكمالا لأبواب علم المعاني.
الوصل والفصل
الوصل عطف بعض الجمل على بعض والفصل تركه. وحق الجمل إذا ذكر بعضها بعد بعض أن تذكر بدون عطف لأن كل جملة كلام مستقل بالفائدة إلا أن أسلوب الكلام العربي غلب فيه أن يكون متصلا بعضه ببعض بمعمولية العوامل والأدوات أو بالإتباع أو بالعطف([24]) فلا تذكر جمل الكلام ولا كلماته تعدادا إلا في الواقع التي يقصد فيها التعداد نحو قوله(( فيها عين جارية فيها سرر مرفوعة)) أو في حكاية المحاورات نحو(( قالوا سلاما قال سلام)) وقولنا سئل فلان أجاب([25]) أو إملاء الحسبان نحو واحد اثنان أو قصد إظهار انفصال الجمل واستقلالها كقوله تعالى(( إنا كاشفو العذاب قليلا إنكم عائدون. يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون)).
أو في مواقع الفصل الآتية:
فعطف الجمل إما بالواو المقتضية لأصل التشريك في الحكم المتكلم فيه. وإما بحرف آخر يدل على معنى زائد على التشريك أو على ضد التشريك إذا وجد معنى ذلك الحرف نحو الفاء وحتى و أو وبل.
وهذا الأصل الذي أشرت إليه يعدل عنه لأحد أمرين: لمانع يمنع منه أو لشيء يغني عنه.
ثم شرط صحة العطف مطلقا في المفردات والجمل وبالواو وبغيرها وجود المناسبة التي تجمع الجملة المعطوفة والجملة المعطوفة عليها في تعقل العقول المنتظمة بحسب المتعارف ([26]) عند المتكلمين بتلك اللغة.
وهاته المناسبة لا تعدو التماثل أو التضاد أو القرب من أحدها نحو زيد يكتب ويشعر. (( والسماء رفعها)) إلى قوله(( والأرض وضعها للأنام)) ([27]) بخلاف نحو زيد يكتب وينام.ويعطي وينظم الشعر.وخرجت من السوق وأبدع امرؤ القيس في شعره.وإن كان كل ذلك كلاما صادقا حتى كان العطف في المقام الذي لا توجد فيه المناسبة مؤذنا بمقصد كمقصد التشبيه في قول كعب ((أن ألاماني والأحلام تضليل)).فإن الكلام على مواعيد سعاد وأمانيها ولا كلام على الأحلام فلما عطف الأحلام على الأماني علمنا أنه قصد تشبيه أمانيه الناشئة عن دعواها بالأحلام في اللذاذة وعدم التحقق.
وهذا وجه الاحتراز فيما مضى بقولي ((المنتظمة بحسب المتعارف)) وقد يكون التناسب موهوما ومجرد دعوى في المقامات الشعرية واللطائف كقوله:
ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها | | شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر |
وقد يكون التناسب غريباً نابعاً لتناسب شيئين آخرين كقوله تعالى: ((والنجم والشجر يسجدان)) فإن التناسب أوجده ما يأتي بعده من قوله ((والسماء رفعها)) وقوله ((والأرض وضعها)) لأن النجم من توابع السماء والشجر من توابع الأرض ثم يكفي في هذه المناسبة التقارن في الغرض المسوق له الكلام.
ولهذا كان العطف بالفاء وثم وحتى أوسع في هذه المناسبة المشروطة، لأن الترتب أو المهلة أو الغاية كلها مناسبات كافية لتصحيح العطف لأنها دالة على التقارن في الوجود.
وهذا التقارن مهيء للمناسبة ومسوغ للعطف لكنه يزداد حسناً إذا قوي التناسب ولذا كان أصل الفاء التفريع ما لم تبعد المناسبة، ألا ترى كيف حسن العطف في قول عمرو بن كلثوم:
نزلتم منزل الأضياف منا | | فعجلنا القرى أن تشتمونا([28]) |
وكيف يقبح العطف بالفاء لو قلت جاء زيد فصفعوه ويزيد قبحاً لو قلت جاء زيد فنهق الحمار لبعد المناسبة([29]) وكيف يحسن أن تقول طلع الفجر فأذن المؤذن.
وقول ابن زمرك:
هبَّ النسيم على الرياض مع السحر | | فاستيقظت في الدوح أجفان الزهر |
ويكون دونه حسناً -طلع الفجر فصاح الديك- وكيف يقبح أن تقول طلع الفجر فاستيقظ زيد إذا لم يكن الحديث قبل ذلك على زيد.
إذا تحققت هذا فاعلم أنه يتعين الوصل إذا أريد تشريك الجملة المعطوفة للجملة المعطوف عليها في حكمها في الإعراب كعطف الجمل المعمولة لعامل واحد بعضها على بعض([30]) أو التشريك في حكمها في المعنى وإن لم يكن للمعطوف عليها محل من الإعراب.
والمراد من الحكم الكيفية الثابتة لمفهوم الجملة المعطوف عليها مثل حكم القصر في قوله تعالى: ((إنما أنت منذر ولكل قوم هاد)) فقد عطف جملة ((ولكل قوم هاد)) على جملة إنما أنت منذر لأن المقصود تشريكها في حكم القصر، إذ المقصود من الجملتين الرد على من اعتقد خلاف ذلك([31]) وليس للجملتين محل من الإعراب.
ويتعين الفصل إذا أريد التنبيه على أن الجملة الثانية منقطعة عن الأولى أي غير مشاركة لها لا في الحكم الإعرابي نحو قوله تعالى: ((قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءون الله يستهزئ بهم)) لم تعطف جملة ((الله يستهزئ بهم)) لئلا يظن السامع إنها من قولهم، ولا في مجرد الحكم المعنوي حيث لم يكن إعراب نحو قوله تعالى: ((إنما أنت منذر ولكل قوم هاد * الله يعلم ما تحمل كل أنثى)) لم تعطف جملة الله يعلم لأنه لم يقصد دخولها في حكم القصر إذ لا قصد للرد على معتقد أن الله لا يعلم ما تحمل كل أنثى إذ لم يكن في المخاطبين من المشركين وأهل الكتاب من يعتقد ذلك، وكذا قولهم -مات فلان رحمه الله- فلو عطف -رحمه الله- لظن أن الجملة الدعائية أخبار عن فعل الله معه.
فالفصل في هاته الأمثلة كلها لأجل انقطاع الجملتين بعضهما عن بعض كما رأيت.
ويتعين الفضل أيضاً إذا كانت الجملة الثانية عين الأولى في المعنى أو في محصل الفائدة لأن العطف يقتضي المغايرة: فالتي هي عين الأولى في المعنى نحو قول الشاعر الذي لم يعرف:
أقول له راحل لا تقيمن عندنا | | وإلا فكن في الجهر والسر مسلما |
فإن معنى لا تقيمن هو ما يفيده معنى قوله ارحل، فكانت الجملة الثانية كبدل الاشتمال من الأولى([32]) والتي هي عين الأولى في محصل الفائدة مثل المؤكدة نحو ((ذلك الكتاب لا ريب فيه)) فجملة لا ريب فيه مؤكدة لمعنى ذلك الكتاب.
ومن أنواع الوصل عطف طائفة من الجمل على مجموع طائفة أخرى بحيث تعطف قصة على قصة أو غرض على غرض في الكلام فلا تلاحظ إلا المناسبة بين القصة والقصة والغرض والغرض لا بين أجزاء كل من القصتين حتى إذا وليت الجملة الأولى من القصة المعطوفة إحدى جمل القصة المعطوف عليها لا يتطلب وجه لتلك الموالاة لأنها موالاة عارضة، وهذا نحو عطف قوله تعالى: ((وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات)) إلخ، على قوله تعالى ((وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا)) لأن قوله -وإن كنتم في ريب- مسوق لبيان عقاب الكافرين وقوله -وبشر- مسوق لبيان ثواب المؤمنين، ونظيره من عطف المفردات قوله تعالى: ((هو الأول والآخر والظاهر والباطن)) فإنه لو قصد عطف الظاهر على الآخر لم يحسن وإنما القصد عطف وصفين متقابلين على وصفين متقابلين وكلها لموصوف واحد.
عطف الإنشاء على الخبر وعكسه منع بعض علماء العربية عطف الإنشاء على الخبر وعطف الخبر على الإنشاء والحق أن ذلك ليس بممنوع وهو كثير في الكلام البليغ وقد قال الله تعالى: ((واذكر عبدنا داوود ذا الأيد إنه أواب إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق والطير محشورة كل له أواب وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب)) عطف -وهل أتاك- على -أخبار داوود-.
واعلم أنه قد يخالف الظاهر فيؤتى بالوصل في مقام الفصل وبعكسه لقصد دفع إيهام ينشأ عن ارتكاب مقتضى الظاهر كما جاء الفصل في قول الشاعر الذي لم يعرف:
وتظن سلمى أنني أبغي بها | | بدلاً أراها في الضلال تهيم |
كان الظاهر عطف جملة -أراها- لكنه فصلها لئلا يتوهم السامع أن ذلك ممات ظنه سلمى فالوصل سبب منع منه مانع.
وكما جاء الوصل في نحو قولهم (لا وأيدك الله)) فإن الظاهر الفصل لأن الجملتين غير مشتركتين في الحكم([33]) ضرورة أن أحدهما خبر والأخرى إنشاء فقد وجد مانع الوصل ولكنه خلفه مقتض إذ لو فصل لتوهم الدعاء بنفي تأييده.
هذه معاقد أحوال الفصل والوصل وفي وجوه الاتصال والانفصال المرتب عليهما الوصل والفصل تفاصيل واعتبارات دقيقة يجب إرجاؤها لكتب مرتبة أرقى من هذه([34]).
الإيجاز والإطناب والمساواة
الأصل في الكلام أن يكون تأدية للمعاني بألفاظ على مقدارها أي بأن يكون لكل معنى قصده المتكلم لفظ يدل عليه ظاهر أو مقدر([35]) وتسمى دلالة الكلام بهاته الكيفية مساواةً لأن الألفاظ كانت مساوية للمدلولات فإذا نقصت الألفاظ عن عدد المعاني مع إيفائها بجميع تلك المعاني فذلك الإيجاز مثل الحذف لما شانه أن يذكر في كلامهم إذا قامت القرينة ومثل توخي لفظ يدل على مجموع معان إذا كانت الغالب في الكلام إذا قامت القرينة ومثل توخي لفظ يدل على مجموع معان إذا كانت الغالب في الكلام الدلالة على تلك المعاني بعدة ألفاظ، فقول بشار:
من راقب الناس لم يظفر بحاجته | | وفاز بالطيبات الفاتك اللهج |
مساواةٌ، وقول سَلَم
من راقب الناس مات كمداً | | وفاز باللذة الجسور |
إيجاز، وإذا زادت الألفاظ على عدد المعاني مع عدم زيارة المعاني فذلك الإطناب مثل التوكيد اللفظي والتكرير وذكر الخاص بعد العام والتفسير نحو ((أن الإنسان خلق هلوعاً إذا مسه الشر جزوعاً)) إلخ، ومثل قوله:
الألمعي الذي يظن بك الظنـ | | ـن كأن قد رأى وقد سمعا |
ومبنى كلام العرب على الإيجاز ما وجدوا إليه سبيلاً لأن الأمة العربية أمة ذكية فابتنى كلامها على مراعاة سبق إفهامها([36]) فقول المبرد في كامله ((من كلام العرب الإيجاز المفهم والإطناب المفخم)) تنويع للكلام لا قصد للتساوي بينهما، وكلها تجري على حسب مقتضي الحال.
أما المساواة فنحو قوله تعالى ((ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله)) والإيجاز يكون إيجاز حذف وإيجاز اختصار أو قصر (بكسر القاف وفتح الصاد) فإيجاز الحذف كحذف المسند إليه والمسند والمفعول والتحذير والإغراء، وحذف المفعول أكثر أنواع الحذف في الإيجاز نحو قد كان منك ما يسوء أي كلّ احد نحو ((والله يدعو إلى دار السلام عليكم ورحمة الله وبركاته)) وحذف المضاف نحو ((واسأل القرية)) وحذف الصفة نحو ((فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة)) أي صالحة، وحذف الجملة أو الجمل التي يدل عليها السياق نحو ((أن اضرب بعضاك الحجر فانفلق)) أي فضرب ونحو ((فأرسلون يوف أيها الصديق))، أي فأرسلوه فقال وكثير من أمثال العرب يشتمل على إيجاز لحذف.
وإيجاز الاختصار أداء المعاني بألفاظ أقل منها عدداً دون حذف بل بتوخي ما يفيد من الألفاظ عدة معان نحو قولهم في المثل ((القتل أنفى للقتل)) وقوله تعالى: ((ولكم في القصاص حياة)) وقوله في الحديث ((ليكن ثوبك إلى الكعبين فإنه أنقى وأبقى)) وقول المعري: ((أولو الفضل في أوطانهم غرباء)) أراد أن يقول إنهم مخالفون لأحوال عامة الناس كما بينه في بقية البيتين([37]).
وكثير من أمثال العرب يشتمل على إيجاز الاختصار وكذلك حكم الحكماء، وأما الإطناب فبالتكرير في مقام التهويل نحو ((ويل يومئذ للمكذبين)) في سورة المرسلات ونحو ((قربا مربط النعامة مني)) في قصيدة الحرث بن عباد من إبطال حرب البسوس، وكنحو ذلك.
واعلم أن الإطناب والإيجاز قد يطلقان على التوسع في الغرض المسوق له الكلام والاقتصاد فيه فيعد من الإطناب الإتيان بالجملة المعترضة أو كثرة البيان والإيضاح، ومن الإيجاز ترك المقدمات في الخطب لضيق المقام ونحوه([38]) وتعلق هذا النوع بفن البلاغة ضعيف بل هو من مباحث صناعة الإنشاء([39]).
فن البيان
هو علم به يعرف البليغ كيفية إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة على حسب مقتضى الحال فتلك الطرق هي: الحقيقة، والمجاز، والتشبيه، والتصريح، والكناية.
التشبيه
هو من الحقيقة ولكنه لكثرة وروده في كلام البلغاء وشدة عنايتهم به منذ حفظ الشعر العربي استحق التخصيص بالتبويب واستحق التقديم على المجاز لتوقف بعض أنواع المجاز عليه.فالتشبيه الدلالة الصريحة على إلحاق شيء بشيء في وصف اشتهر فيه الملحق به تقريبا لكمال الوصف المراد التعبير عنه كقولك هذا الفرس كالطائر في سرعة المشي([40]) والمراد بالصريحة ما كانت بلفظ دال على ألا لحاق ملفوظ أو مقدر.وخرج به الاستعارة والتجريد.
وأركانه أربعة: طرفاه: وهما المشبه والمشبه به ووجهه: وهو ما يشترك فيه الطرفان. وأدواته: وهي ما يدل على الإلحاق. أما الطرفان فقد يكونان حسيين وهو الغالب. وقد يكونان عقليين كتشبيه العلم بالنور والسيوف بأنياب الأغوال. وأما وجه الشبه فهو ما يتوهمه المتكلم وصفا جامعا سواء كان ثابتا في نفس الأمر كالشجاعة في الأسد أم كان ثابتا في العرف كتشبيه العجوز بالسّعلاة وتشبيه المعاقب على ذنب غيره بسبابة المتندم حين يعضها في قول ابن شرف القيرواني ( المتوفى سنة 490)
غيري جنى وأنا المعاقب فيكم | | فكأنني سبابة المتندم |
أم كان ثابتا في الوهم والخيال كتشبيه النجوم في الظلام بالسنن في خلال الابتداع في قول القاضي التنوخي (المتوفى سنة 342)
وكأن النجوم بين دجاها | | سنن لاح بينهن ابتداع |
والأكثر حذفه في الكلام وقد يذكر لخفائه.
وأداته الكاف. وكأن. ومثل. وشبه. ومثل. ونحوها وهي إما ظاهرة نحو كالبحر وكلامه كالدر. أو مقدرة نحو هو أسد وقوله تعالى(( صم بكم عمي)) ويسمى بالتشبيه البليغ وليس باستعارة على أصح القولين.
وأعلم أن وجه الشبه إذا كان وصفا منتزعا من أمرين فأكثر سمي ذلك التشبيه تشبيه التمثيل سواء كان طرفاه مركبين كقول بشار
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا | | وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه ([41]) |
أم كان أحدهما أو كلاهما مفردا كقول النابغة
لكلفتني ذنب امرئ وتركته | | كذي العر يكوي غيره وهو واتع |
فإنه شبه نفسه بالبعير المكوي لمرض غيره لأن ذلك هو المقصود كما شبه المرا بذي العر وكلا المشبهين مفرد والمشبه به الهيئة وتركب الطرفين معا يستلزم تركب وجه الشبه.
ويسمى بالتشبيه البليغ ما حذفت أداته فصار المشبه به خبرا عن المشبه نحو وجهك البدر
في قول:
وجهك البدر لا بل الشمس لو لم | | تقض للشمس كسفة وأفول |
أو صار حالا نحو والسماء بناء ومنه قول أبي الطيب:
بدت قمرا ومالت خوط بان | | وفاحت عنبرا ورنت غزالا |
أو مضافا إلى المشبه نحو تمر مر السحاب ونحو ذهب الأصيل ولجين الماء.
في قول شاعر لم يعرف:
والريح تعبث بالغصون وقد جرى | | ذهب الأصيل على لجين الماء |
وقد يعكس التشبيه إدعاء كقول محمد بن وهيب:
وبدا الصباح كأن غرته | | وجه الخليفة حين يمتدح |
وقد يحذف المشبه به فيكون التشبيه مكنيا ويشار إليه ببعض ما هو من خصائص المشبه به كقول النابغة
فبت كأن العائدات فرشن لي | | هراسا به يعلى فراشي ويقشب |
فالمشبه به هو المريض الذي يشتد ألمه بالليل وقد حذفه وأشار إليه بالعائدات لأن المقصود تشبيه نفسه لا تشبيه العوائد وإنما جاء بذكر فرشن لي زيادة في تهويل آلامه. وهذا النوع هو الذي تتفرع منه الاستعارة المكنية ولم يذكره المتقدمون.
الحقيقة والمجاز
الحقيقة الكلمة المستعملة فيما وضعت له والمجاز اللفظ المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة مع قرينة مانعة من إرادة الحقيقة وإنما قلنا اللفظ دون الكلمة ليشمل هذا التعريف المجاز المفرد والمجاز المركب كما سيأتي.
وإنما قلنا المستعمل في غير المعنى الموضوعة هي له في اللغة سواء كان استعمالها في المعنى المجازي أقل من استعمالها في المعنى الحقيقي أم مساويا أو أشهر فإن المجاز قد يشتهر ويسمى بالحقيقة العرفية مثل الزكاة والتيمم. ومثل الفاعل. والقياس ([42]) وقولي لعلاقة لإخراج الغلط وإخراج المشاكلة الآتية في البديع. وقولي مع قرينة مانعة لإخراج الكناية ولبيان شرط ماهية المجاز.
والقرينة ما يفصح عن المراد لا بالوضع من كلمة نحو رأيت أسدا يرمي أو صيغة نحو قول المستنجد أين الأسود الضارُون فإن صيغة جمع العقلاء قرينة وإلا لقال الضارية. أو حال الكلام نحو لقيت أسدا والمتكلم من أهل الحاضرة.
وتقييد القرينة بالمانعة لإخراج المعينة لمعنى كقرينة أرادة أحد معاني اللفظ المشترك أو التي تعين نوع المجاز من بين أنواع يحتملها المقام فإن تلك لابد منها إذا لم يكن المراد إذهاب نفس السامع كل مذهب ممكن كما تقول هو بحر فيحتما الكرم والعلم.
والعلاقة هي الناسبة التي بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي والعلاقات كثيرة أنهاها بعضهم إلى ثمان وعشرين وأشهرها المشابهة. والسببية، والمجاورة، والبعضية.ويعبر عنها بالجزئية نسبة للجزء. والتقييد. أي أطلاق اللفظ الموضوع لمعنى مقيد على المعنى المطلق([43]) والمئال.وأضدادها.ويمكن ردها إلى المشابهة والتلازم لأن المراد اللزوم عرفا. فالمجاز إن كانت علاقته المشابهة سمي استعارة وإن كانت علاقته غير المشابهة سمي مجازا مرسلا وقد يختلط مجاز اللزوم بالكناية. وأهم أنواع المجاز هو الاستعارة لشدة عناية بلغائهم بالتشبيه وتنافسهم فيه منذ زمن امرئ القيس ولذلك سموا ما لم يبن على المشابهة بالمرسل لأنه المطلق عن التشبيه المعتبر عندهم ([44]) .
ولنبدأ بالكلام على المجاز المفرد ثم نتبعه بالمجاز المركب أما المجاز المفرد فقد تقدم تعريفه. فالمجاز المرسل المفرد كإطلاق الأيادي على النعم في قوله * أيادي لم تمنن وإن هي جلت* وإطلاق العين على الرقيب وإطلاق اللسان على الذكر الحسن في قوله تعالى: ((واجعل لي لسان صدق في الآخرين)) ونحو ذلك وتفاصيلها غير صعبة.
والاستعارة المفردة تجري في الأسماء والأفعال والحروف فكل كلمة من هاته الأنواع إذا استعملت في غير ما وضعت له لمشابهة ما استعملت فيه لما وضعت له فهي استعارة فاستعارة الأسماء كثيرة واستعارة الأفعال والحروف نحو *فلسان حالي بالشكاية أنطق* واستعارة الحرف في نحو ((ولأصلبنكم في جذوع النخل)) وقوله ((فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً))([45]) ولا جدوى في تسميتها تبعية([46]) ولا يستعار الاسم العلم إلا إذا تضمن وصفا مشتهراً كحاتم بالجود وسحبان بالفصاحة.
تنقسم الاستعارة إلى مصرحة ومكنية.
فالمصرحة هي التي صرح فيها بلفظ المشبه به واستعمل في المشبه ملفوظا به أو مقداراً نحو (لدي أسد)، ونحو قول المجيب نعم لمن قال له مثلاً ((تناغي غزالاً عند باب ابن عامر؟)).
والمكنية ويقال استعارة بالكناية وهي أن يستعار لفظ المشبه به للمشبه ويحذف ذلك اللفظ المستعار ويشار إلى استعارته بذكر شيء من لوازم مسماه نحو قول أبي ذؤيب:
وإذا المنية انشبت أظفارها | | ألفيت كل تميمة لا تنفع |
فقد ظهر من ذكر الأظفار أن المنية شبهت بالسبع وقول أبي فراس:
فلما اشتدت الهيجاء كنا | | أشد مخالباً وأحد نابا |
ولا يضر بقاء لفظ المشبه في الكلام لأنه صار مذكوراً لغير قصد التشبيه بل لإكمال معنى اللازم المذكور ألا ترى أنه يجيء مضافاً إليه كما في بيت أبي ذؤيب أو يكون مذكوراً في الخبر السابق كما في بيت أبي فراس([47]).
واعلم أن هذا اللازم الذي هو من ملائمات المشبه به في المكنية قد يكون غير صالح للاستعارة فالإتيان به إذاً لمجرد كونه من لوازم ماهية اللفظ المحذوف كالأظفار في بيت أبي ذؤيب وكقول لبيد في المعلقة:
وغداة ريح قد كشفت وقِرَّة | | إذا أصبحت بيد الشَّمال زمامُها |
فشبه ريح الشمال براكب أمسك بزمام فرس البرد وجعل له يداً ولا يصلح اليد لأن تكون تشبيها لشيء في معاني هذا البيت، وكذلك قوله تعالى: ((فكلوه هنيئاً مريئا)) شبه المال المأخوذ بالطعام والشراب وجعل له الهناء والمري وقد يكون هذا اللازم صالحاً للاستعارة أيضاً كما في قوله تعالى: ((الذين ينقضون عهد الله)) فإن النقض من لوازم الحبل الذي شبه به العهد ويصح مع ذلك أن يكون مستعاراً لأبطال العهد وكالأظفار في قول حسين بن الضحاك يخاطب عمرو بن مسعدة ليشفع له لدى المأمون الخليفة:
أنت يا عمرو قوتي وحياتي | | ولساني وأنت ظفري ونابي |
فإنه أراد تشبيه نفسه بسبع وتشبيه المخاطب بالشيء الذي به يدافع السبع عن نفسه وذلك لا يبطل دلالته على المكنية لأن مجرد إشعار اللفظ بلازم من لوازم المشبه به المكنى كاف في كونه دليلاً على المكنية([48]).
وأما المجاز المركب فهو الكلام التام المستعمل في غير ما وضع للدلالة عليه لعلاقة مع قرينه كالمفرد.
ولا يختص بعلاقة المشابهة بل قد تكون علاقته غير المشابهة كالحبر المستعمل في التحسر لعلاقة اللزوم نحو *هواي مع الركب اليمانين مصعد* وكالإنشاء المراد به الخبر كقوله *جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط* فيسمى حينئذ مجازاً مركباً فقط، وقد تكون علاقته المشابهة فيسمى استعارة تمثيلية وتمثيلا نحو: إني أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرىـ شبهت حالة المتردد في الرأي بحال المتردد في المشي واستعير المركَّب الدال على التردد في المشي للدلالة على معنى التردد في الرأي، وكذا قول عبد الله ابن المعتز:
اصبر على مضض الحسو | | دِ فإن صبرك قاتله |
فالنار تأكل نفسها | | إن لم تجد ما تأكله |
فقوله فالنار تأكل إلخ مركب مستعمل في غير ما وضع للدلالة على معناه إذ هو الآن مستعمل في معنى أن الحسود يرجع وبال حسده عليه ولا يضر به إلا نفسه كالنار تأكل نفسها إذا تركت ولم يلق فيها شيء تحرقه([49]) وكذلك قولهم انتهز الفرصة شبه هيئة المبادر للفعل بالمبادر لنوبة شرب الماء، والاستعارة التمثيلية تتفرع عن التشبيه المركب المتقدم ذكره.
هذا والبلغاء يتفننون فيأتون مع الاستعارة بما يناسب المعنى المستعار إغراقاً في الخيال فيسمى ذلك ترشيحاً نحو قول زهير:
لدي أسدشاكي السلاح مقذّف | | له لبد أظفاره لم تقلم |
فقوله له لبد أظفاره لم تقلم ترشيحان، وقول النابغة:
وبنو سوآءة لا محالة إنهم | | آتوك غير مقلمي الأظفار |
وقد يأتون مع الاستعارة بما يناسب المعنى المستعار له إغراقاً في الخيال أيضاً بدعوى أن المشبه قد اتحد بالمشبه به فصارا حقيقة واحدة حتى أن الأسد يحمل بيده سيفاً في قوله لدي أسد شاكي السلاح وحتى أن ريح الشمال تمسك بيدها زماماً في قوله ((بيد الشَّمال زمامها)) ويسمون ذلك تجريداً لأن الاستعارة جردت عن دعوى التشبيه إلى الحكم بالاتحاد والتشابه التام ويكون ذلك مع المصرحة والمكنية كما علمته في المصرحة، وأما المكنية فإن ما يذكر من لوازم المشبه به صالح أبداً ليكون ترشيحاً فكل من التجريد والترشيح إكمال للاستعارة وإغراق في الخيال ومن ثم لم يمتنع الجمع بينهما في كثير من كلامهم كما في بيت زهير المتقدم.
وهذا يحقق لكم أن كلا من الترشيح والتجريد مشتمل على مبالغة في التشبيه من جهة([50]) وأن الترشيح والتجريد يخالفان القرينة([51]) وأن الجريد ليس بنكول عن الاستعارة ([52]) وأن التشريح قد يكون باقياً على حقيقته إذا لم يكن لمعناه الوضعي شبيه كما في قوله ((له لبد)) وقوله تعالى ((فكلوه هنيئاً مريئاً)) إذا كان معنى فكلوه فخذوه أخذاً لا رد فيه والهنيء المري من صفات الطعام ولم يقصد هنا استعمالهما في وصف للمال كالإباحة لأن معنى الإباحة قد استفيد من الأمر في قوله كلوه لأن الأمر هنا للإباحة، وقد يكون استعارة إذا كان لمعناه شبيه يناسب التشبيه كما في قوله تعالى ((واعتصموا بحبل الله جميعاً)) فهو استعارة على استعارة وإذا كان صالحاً لذلك لم يظن بالبليغ أن يفلته، ومن النادر أن يقصد المتكلم من التجريد إبطال الاستعارة فيكون التجريد بمنزلة إخراج الخبء كقولها
استغفر الله لأمري كله قتلت ظبياً ناعماً في دله انتصف الليل ولم أصله
فإنها لما أرادت تشبيه القرآن في براعة مستمعه بالظبي في براعة المنظر نبهت على أن الظبي قرآن يصلي به، وإذا جعل الترشيح استعارة لم يبطل ترشيحه للاستعارة الأولى لأن استفادة الترشيح حاصلة من صورة لفظه([53]).
وما يجري من الترشيح والتجريد في المجاز المفرد يجري في التمثيل فمثال التجريد فيه قوله تعالى: ((مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً)) إلى قوله ((ذهب الله بنورهم)) فإن جمع الضمير مراعاة للمشبه لا للمشبه به لأنه مفرد، ومثال ترشيح التمثيلية قوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض)) فجملة اثاقلتم تمثيل لهيئتهم في التنصل من الخروج بهيئة الجسم الثقيل في صعوبة تنقله وقوله إلى الأرض ترشيح.
الكناية
هي ما يقابل التصريح والمراد بها هنا لفظ أريد به ملزوم معناه مع جواز إرادة المعنى اللازم وبهذا القيد الأخير خالفت المجاز المرسل الذي علاقته اللزوم([54]) والأصل فيها أن يراد المعنى مع لازمه ويكون اللازم هو المقصود الأول فإن البدوي إذا قال ((فلان جبان الكلب ومهزول الفصيل)) أراد أن كلبه وفصيله كذلك والمقصد وصفه بالكرم فإذا شاع ذلك صح إطلاقه ولو لم يكن له كلب ولا فصيل كما إذا قيل في وصف الحضري فلان جبان الكلب.
وهي تنقسم إلى واضحة وخفية فالواضحة هي التي لا تحتاج إلى إعمال روية نحو قولهم طويل النجاد كناية عن طول القامة وقول العرب مثلك لا يفعل كذا وغيرك لا يفعل يريدون أنت لا تفعل قال تعالى: ((ويتبع غير سبيل المؤمنين)) أي لا يتبع سبيل المؤمنين، والخفية التي تحتاج لأعمال روية أما الخفاء اللزوم نحو عريض القفا كناية عن الغباوة وأما لكثرة الوسائط نحو كثير الرماد بمعنى كريم([55]).
والكناية أبلغ من التصريح لمن كان ذكياً.
تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر
اعلم أن البلغاء يتفننون في كلامهم فيأتون فيه بما لا يجري على الظاهر الشائع بين أهل البلاغة يقصدون بذلك التمليح والتحسين أو يعتمدون على نكت خفية يقتضيها الحال ولا يتفطن لها السامع لو لم يلق إليه ما يخالف ظاهر الحال([56]).
فلا ينبغي أن يعد في خلاف مقتضى الظاهر ما كان ناشئاً عن اختلاف الدواعي والنكت مع وضوح الاختلاف كالوصل في مقام الفصل وعكسه لدفع الإيهام، ولا الإطناب في مقام الإيجاز لاستصغاء السامع، لظهور نكتة ذلك، وكذا لا يعد ما كان ناشئا عن علاقة مجازية كاستعمال الخبر في الإنشاء ولا ما كان ناشئا عن تنزيل الشيء منزلة غيره مع وضوح لأنه من المجاز كالقصر الادعائي وكعكس التشبيه، فتعين أن يوضع ذلك ونظائره في مواضعه من أبوابه وإن كان فيه رائحة من تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر من حيث أن الأصل خلافه وأن الذهن لا ينصرف إليه ابتداء وإنما يعد من تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر ما لم يكن ناشئا عن نكتة أصلاً وهذا لا يوصف بموافقة مقتضى الحال ولا بمخالفته، وكذا يعد منه ما كان ناشئاً عن نكتة خفية لا يتبادر للسامع إدراكها بسهولة وهذا يوصف بأنه مقتضى حال لكنه خفي غير ظاهر.
فمن الأول الالتفات وهو انتقال المتكلم من طريق التكلم أو طريق الخطاب أو طريق الغيبة إلى طريق آخر منها انتقالا غير ملتزم في الاستعمال([57]) نحو الحمد لله رب العالمين إلى قوله ((إياك نعبد)) فإن مقتضى الظاهر أن يقول إياه نعبد وقوله ((والله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً فسقناه)) فإن مقتضى الظاهر أن يقال فساقه وله نكت تزيده حسناً في الكلام لها بيان في المطولات.
ومنه أيضاً الأسلوب الحكيم وهو تلقي من يخاطبك بغير ما يترقب أو سائلك بغير ما يتطلب، بأن تحمل كلام مخاطبك (بكسر الطاء) على خلاف مراده تنبيهاً على أنه الأولى له بالقصد كقول القبعثري للحجاج وقد قال له الحجاج متوعداً إياه ((لأحملنك على الأدهم)) يعني القيد فقال له القبعثري ((مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب)) فصير مراده للفرس ومنه قول..
أتت تشتكي مني مزاولة القرى | | وقد رأت الاضياف ينحون منزلي |
فقلت لها لما سمعت كلامها | | هم الضيف جدّي في قراهم وعجل |
وبأن تجيب سؤال السائل بغير ما يتطلب تنبيهاً على أنه الأولى بحاله أو المهم له كقوله تعالى: ((يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج))
ومنه القلب وهو جعل أحد أجزاء الكلام مكان الآخر لغير داع معنوي دون تعقيد ولا خطا ولا لبس([58]) ويقصده البلغاء تزييناً للكلام فمنه ما ليس بمطرد نحو عرضت الناقة على الحوض وأدخلت الخاتم في إصبعي ومنه مطرد في الكلام كثير عندهم حتى صار أكثر من الأصل نحو قولهم ما كاد يفعل كذا يريدون كاد ما يفعل وعليه قوله تعالى: ((وما كادوا يفعلون)) وقوله ((لم يكد يراها)) ومن هذا النوع التشبيه المقلوب المذكور كله في البيان وعليه قول رؤية
ومهمه مغبرة أرجاؤه | | كأن لون أرضه سماؤه |
وقد ظهر أن هذا النوع كله لا حال تقتضيه ولكنه تمليح في الكلام.
ومن النوع الثاني من أنواع تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر ما تقدم في باب اٌسناد من تنزيل غير السائل منزلة السائل ومنه مخاطبة الذي يفعل بالأمر بالفعل لقصد الدوام على الفعل كما في ((يا أيها الذين آمنوا آمنوا)) أو لعدم الاعتداد بفعله كما في الحديث ((صلّ فإنك لم تصل)).
ومنه التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي تنبيها على تحقيق وقوعه لأن المستقبل مشكوك في حصوله فإذا أردت أن تحققه عبرت عنه بالماضي إذ الماضي فعل قد حصل نحو قوله تعالى ((ويوم ينفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض))([59]).
ومنه التغليب وهو إطلاق لفظ على مدلوله وغيره لمناسبة بين المدلول وغيره والداعي إليه أما الإيجاز فيغلب أخف اللفظين نحو قولهم الأبوين والعمرين لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وأما مراعاة أكثرية استعمال لفظ أو صيغة في الكلام فتغلب على اللفظ أو الصيغة المرجوحة نحو قوله تعالى: ((وكانت من القانتين))، وأما لتغليب جانب المعنى على اللفظ نحو ((بل أنتم قوم تجهلون)) ولعل هذا من الالتفات([60]).
فن البديع
البديع هو المحسنات الزائدة في الكلام على المطابقة لمقتضى الحال وتلك المحسنات أما راجعة إلى معنى الكلام باشتمال المعنى على لطائف مفهومة تحسنه وتكسبه زيادة قبول في ذهن المخاطب.وأما راجعة إلى لفظ الكلام باشتماله على لطائف مسموعة تونقه وتوجب له بهجة في سمع السامع .
وقد مر في مقدمة هذا الموجز أن فن البديع هو أول ما أفرد بالتأليف من فنون البلاغة وأن مدونه هو عبد الله ابن المعتز العباس.
والمحسنات البديعية كثرة لا تنحصر عدا وابتكارا ويكفي المبتدئ أن يعرف مشهورها من القسمين اللفظي والمعنوي.
أما المعنوي فمنه التجريد وهو أن ينتزع من أمر ذي صفة أمر آخر مثله في تلك الذات كقولهم لي منك صديق حميم ولئن سألت فلاناً لتسألن به بحراً ومن هذا مخاطبة المرء نفسه وذلك كثير في الشعر كقول النابغة:
دعاك الهوى واستجهلتك المنازل | | وكيف تصابي المرء والشيب شامل |
ومنه طالع قصيدة البردة البصرية ((أمن تذكر جيران البيت))
ومنه المبالغة المقبولة وهي ادعاء بلوغ وصف في شدته أو ضعفه مبلغاً يبعد أو يستحيل وقوعه، وأصدقها ما قرن بلفظ التقريب نحو يكاد زيتها يضيء، ودونه ما علق على ما لا يقع كقول المتنبي:
عقدت سنابكها عليها عثيرا | | لو تبتغي عنقاً عليه لأمكنا |
وما عدا ذلك يحسن منه ما تضمن تمليحاً كقول المتنبي
كفى بجسمي نحولا أنني رجل | | لولا مخاطبتي إياك لم ترني |
ومن التورية وهي أن يذكر لفظ له معنيان قريب وبعيد ويراد المعنى البعيد اعتماداً على القرينة لقصد إيقاع السامع في الشك والإيهام ولم تكن معروفة في شعر العرب إلا في قول لبيد يذكر قتلاهم ويوري بأبيه ربيعة قتل يوم ذي علق
ولا من ربيع المقترين رزئته | | بذي علق فاقني حياءك واصبري |
وقول عنترة:
جادت عليه كل بكرة حرة | | فتركن كل قرارة كالدرهم |
البكر السحابة السابق مطرها والحرة الخالصة من البرد، وقد اشتهر بالإبداع في هذا النوع علي الغراب الصفاقسي المتوفى سنة 1183 كقوله:
جمعت هوى ظبي وقد كان جامعاً | | لزيتونة من فوق أغصانها التوى |
فيا جامع الزيتونة الفاتن الورى | | تفضل بمعروف على جامع الهوى |
ومنه التلميح (بتقديم اللام على الميم) وهو الإشارة في الكلام إلى قصة أو مسألة علمية أو شعر مشهور كقول أبي تمام:
فوالله ما أدري أأحلام نائم | | ألمت بنا أم كان في الركب يوشع |
يشير إلى القصة المذكورة في الإسرائيليات أن الشمس ردت ليوشع النبي عليه السلام عليكم ورحمة الله وبركاته في بعض غزواته لئلا يدخل السبت وهو بصدد فتح القرية، وقول ابن الخطيب شاعر الأندلس:
وروى النعمان عن ماء السما | | كيف يروي مالك عن أنس |
يشير إلى نسب النعمان ملك العرب وإلى رواية الإمام مالك عن الصحابي مسقطاً الواسطة وهو الحديث المرسل، أي أن شقايق النعمان روت عن ماء السماء بواسطة الأرض.
ومنه المشاكلة وهي أن يعمد المتكلم إلى معنى غير موجود فيقدره موجوداً من جنس معنى قابله به مقابلة الجزاء أو العوض ولو تقديراً كقوله تعالى: ((يخادعون الله وهو خادعهم)) عبر عن العقاب بالخداع لوقوعه جزاء عن الخداع وقول أبي الرقعمق([61]).
قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه | | قلت اطبخوا لي جبة وقميصا |
عبر عن صنع الجبة والقميص بالطبخ لوقوعه عوضاً عن الطبخ، وقولي ولو تقديراً لإدخال المشاكلة التي لم يجتمع فيها لفظان ولكن معنى أحد اللفظين حاضر في الذهن فيؤتى باللفظ المناسب للفظ المقدر نحو قول أبي تمام:
من مبلغ أفناء يعرب كلهم | | أني بنيت الجار قبل المنزل |
ومنه تأكيد الشيء بما يشبه ضده حتى يخيل للسامع أن الكلام الأول قد انتقض فإذا تأمله وجده زاد تأكدا كقول النابغة
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم | | بهن فلول من قراع الكتائب([62]) |
ومنه براعة الاستهلال وهي اشتمال أول الكلام على ما يشير إلى المقصود منه كقوله في طالع قصيدة هناء:
بشرى فقد أنجز الإقبال ما وعدا | | وكوكب المجد في أفق العلا صعدا |
وأما المحسنات اللفظية فمنها التجنيس ويسمى الجناس وهو تشابه اللفظين في النطق مع اختلاف المعنى وهو قديم في كلام العرب كما في المثل العربي القديم ((هذا جناي وخياره فيه، إذ كل جان يده إلى فيه)) وفي القرآن منه كثير وقول أبي تمام:
ما مات من كرم الزمان فإنه | | يحيى لدى يحيى ابن عبد الله |
وقول الحريري:
سم سمة تحمد آثارها | | وأشكر لمن أعطى ولو سمسمة |
والمكر مهمى استطعت لأتاته | | لتقتني السودد والمكرمة |
فإن كان التشابه في غالب حروف اللفظين فهو غير تام كقوله تعالى: ((وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا)).
ومنه القلب ويسمى الطرد والعكس وهو أن يكون الكلام إذا ابتدأته من حرفه الأخير وذهب كذلك إلى حرفه الأول يحصل منه عين ما يحصل من ابتدائه كقول القاضي أحمد الأرّجاني (نسبة إلى أَرَّجان بفتح الهمزة وتشديد الراء المفتوحة كورة من كور الأهواز ويجوز تخفيف رائها)
مودته تدوم لكل هول | | وهل كل مودته تدوم |
فهذا البيت إذا ابتدأته من حرفه الآخر إلى حرفه الأول كان مثل ابتدائه من حرفه الأول.
ومنها الاقتباس والتضمين فالاقتباس هو أخذ شيء من القرآن أو كلام النبوة والتضمين أخذ شيء من الشعر المشهور ومزجه مع الكلام نظما أو نثراً ولو مع اختلاف الغرضين ولو مع تغيير يسير فمن الاقتباس قول الحريري في المقامة الثانية ((فلم يكن إلا كلمح البصر أو هر أقرب حتى أنشد فأغرب))، ومن التضمين قول ضياء الدين موسى من ملهم الكاتب في هجاء الرشيد عمر الفوي وكان أصلع وأسنانه بارزة
أقول لمعشر جهلوا وغضوا | | من الشيخ الرشيد وأنكروه |
هو ابن جلا وطلاع الثنايا | | متى يضع العمامة تعرفوه |
ويجوز فيهما التغيير اليسير كما في المصراع الأخير المتقدم وكقول أبي القاسم ابن الحسن الكاتبي:
إن كنت أزمعت على هجرنا | | من غير ما جُرم فصبر جميل |
وإن تبدلت بنا غيرنا | | فحسبنا الله ونعم الوكيل |
وهذا آخر ما أردت إملاءه في علم البلاغة، وأرى فيه للقانع من هذا العلم مقنعة وبلاغة، وكان تمامه في منتهى شهر رمضان من عام ثلاثة وأربعين وثلاثمائة وألف بمرسى جرَّاح بالمرسى كتبه مؤلفه محمد الطاهر ابن عاشور.
([1]) وبيان ذلك أن اشتمال الكلام على الكيفيات التي تعارفها خاصة فصحاء العرب فكان كلامهم أوقع من كلام عامتهم وأنفذ في نفوس السامعين وعلى ما شابه تلك الكيفيات مما أبتكره المزاولون لكلامهم وأدبهم وعلى ما يحسن ذلك مما وقع في كلام العرب وابتكره المولعون بلسانهم يعد بلوغاً من المتكلم إلى منتهى الإفصاح عن مراده.
([2]) مثال ذلك ما حكاه الجاحظ أنه سأل رجلاً دخيلاً في العربية عن صبي أخذته الشرطة في سرقة أتهم بها قائلاً في: أي شيء أسلموا هذا الصبي؟ فأجاب ((في أصحاب سند نعال)) أي في أصحاب النعال السندية، وقال مرة يشتم غلاماً للجاحظ ((الناس ويلك أنت حياء كلهم أقل)) يريد أنت أقل الناس حياء واسم هذا الدخيل نفيس بن بريهة، وكما يريد أحد أن يقول باع فرسين فيقول بيع فرس وفرس لأنه لا يعرف كيف يصوغ ماضي باع ولا يعرف صيغة المثنى ولا الإعراب.
([3]) المراد بموقع اللفظ المعنوي أن معناه الموضوع له في اللغة هو هو بحيث لا تجد له خصوصية في اختلاف معناه حتى يصير من مسائل علم المعاني بل يوجد موقع يكون فيه لوقوع ذلك اللفظ أحسن من وقوع غيره فإنه لو قال ((أما والذي أبكى وأرشد)) لكان وقوع لفظ أرشد أقل من وقوع لفظ أضحك وكذلك لفظ أبكى لو وقع مع قوله والذي أمات لم يكن له من الحسن ما كان له في موضعه الأول.
([4]) يعني تعرف أحوال الألفاظ المفردة لتكون فصيحة وتعرف أحوال الألفاظ المركبة وهي الجمل والكلام ليكون كلاماً فصيحاً وبليغاً.
([5]) اعلم أن الفصاحة من أخص أوصاف كلام العرب وعدها في علم المعاني من حيث إنها شرط في البلاغة إذ لا يعتد بالكلام البليغ إلا إذا كان فصيحا فلما توقف وصف البلاغة على تعقل معنى الفصاحة ذكروها هنا لئلا يحيلوا المتعلم على علم آخر وقد كان الشأن أن تعد الفصاحة من مسائل علم الإنشاء والمتقدمون عدوها في المحسنات البديعة نظرا لكونها حسنا لفظيا لكن الحق أن كونها أقوى اعتبارا من البلاغة مانع من عدها في المحسنات التي هي توابع فالوجه عندها من مسائل الإنشاء وأن ذكرها هنا مقدمة للعلم وإنما اشترطت الفصاحة في تحقيق البلاغة لأن الكلام إذا لم يكن فصيحا لم تقبل عليه إفهام السامعين فيفوتها كثير مما أودعه المتكلم في كلامه من الدقائق.
([6]) ويقال له التعقيد اللفظي وهنالك تعقيد يوصف بالمعنوي يرجع إلى الكناية التي تخفي لوازمها خفاء شريدا كما قال بعض المهوسين في مدح بعض علماء تونس
* يا قريب العهد من شرب اللبن* وقال أردت أنه نال العلم على صغر سنة ولا حاجة إلى التعرض له هنا لقلة جدواه ولأنه لا علاقة له باللفظ الذي هو معروض الفصاحة ولأن الفصاحة ليست من فن البيان ولا من فن المعاني بل هي من مقدمات الفن ولاشيء من المقدمات بمسائل.
([7]) اعلم أن الحكم على الكلمة بالغرابة عسر جدا بالنسبة للمولدين لأن استعمال العرب بعد عنا وعليه فنحن نعرف غرابة الكلمة أما بكونها غير جارية على الأوزان المتعارفة والحروف المألوفة نحو هَلَّوف أي يوم ذوغيم. وأما بكون الكلمة غير متكررة الاستعمال في المحفوظ من فصيح نظم العرب ونثرهم نحو خنفقيق أي الداهية المهلكة فقد قال المهلهل
قل لبني حصن يردونه لغتل | | أو يصبروا للصَّيلم الخنفقيق |
وأما بوجود مرادف كثر استعماله ونسي الآخر نحو حيدر بمعنى قصير فإنه ورد في كلامهم بقلة.
([8]) إذ يتوهم السامع أنه يقول لا مثل له إلا ملكاً جده للأم حي وأبوه يقارب جده للأم في المجد أو في العمر وهذا معنى مضحك.
([9]) نسبة للخصوص وهم خاصة الناس في هذا الباب أعني بلغاء الكلام لأن هاته الأحوال لا توجد إلا في كلام البلغاء دون كلام السوقة ولئن وجدت في كلام السوقة فإنها غير مقصود بها مرماها.
([10]) أصل المعنى هو المقدار الذي يتعلق غرض المتكلم بإفادته المخاطب سواء كان قليلاً نحو نزل المطر أو بزيادة معنى نحو نزل الجود ورسف فلان فإنه يفيد أزيد من نزل المطر ومشى فلان لكنه أفاده بمدلول الكلمات وقد تكون الزيادة في المعنى نحو جاء فلان الكاتب وكل هذا من قبيل أصل المعنى لأن جميعه تعبير لزمت إفادته فالحاصل أن أصل المعنى يطول ويقصر بحسب الغرض وهو فوائد أصلية، ثم إذا كيف المتكلم بكيفيات فتلك الكيفيات زائدة على أصل المعنى.
([11]) أحوال المخاطبين مثل حال المنكر والمتردد والمعتقد العكس في القصر وحال الذكي والغبي في إيراد الكناية وأما المقامات فهي أغراض الكلام والمواقع التي يتلكم فيها البليغ مثل مقام الحرب ومقام السلم ومقام الحب ومقام الموعظة ومقام الاستدلال العلمي ومقام الخطابة الاقناعي.
([13]) اعلم أنني نقحت تعريفهم للإسناد فأتيت بتعريف ينطبق على الخبر وعلى الإنشاد ولذلك لم أذكر في التعريف لفظ الحكم بل قلت يفيد ثبوت مفهوم الخ لأن في الإنشاء ثبوتاً وانتفاء لكن بلا حكم.
([14]) إذ لا يقصد المتكلم من كلامه مجرد النطق به كالسعال والأنين وأما قول الحطيئة:
ابت شفتاي اليوم إلا تكلما | | بسوء فما أدري لمن أنا قائله |
فذلك ضرب من التمليح إذ جعل نفسه لا يستطيع البقاء بلا هجاء.
([15]) عصية بطن من بني سليم كانوا كفاراً فغدروا ببعض المسلمين يقال لهم القراء في موضع يدعي ببئر معونة سنة 4 من الهجرة.
([16]) وقد سبق علماء البلاغة إلى التنبيه على إيراد العلم لقصد التلذذ أبو الطيب المتنبي إذ قال في مدح أبي شجاع عضد الدولة.
أساميا لم تزده معرفة | | وإنما لذة ذكرناها |
([17]) هو المكنى بابن أبي السّمط وهي كنية أبي حفصة لم تشتهر عند الأدباء وقد نسب هذا البيت إليه بعنوان هذه الكنية فتوقف في معرفته الكاتبون حتى أن صاحب معاهد التنصيص ترك موضع ترجمته هنا بياضاً.
([18]) أشرت إلى أن التجدد ينبغي أن يخص بالمضارع، وأما الماضي والحال فلا يدلان إلا على كون الوصف غير ذاتي وقد عبروا عن الأمرين بالتجدد.
([19]) والله يعلم من يؤمن ومن لا يؤمن وإنما أبرز الكلام في صورة ما لا جزم فيه على طريقة العرب لو تكلموا في مثل هذا المقام لقصد حث المسلمين على الثبات في الإيمان والتقوى كي يجزم المتكلم بحصولهما منهم.
([20]) أي لا يوجد دليل من جهة نفس اقتضاء الفعل لواحد منها وإن كان قد يوجد دليل لفظي مثل وقوع الفعل في جواب سؤال مقيد ببعض تلك المفاعيل إلا أن المقدر كالمذكور كقول الشاعر
أتصحوا أم فؤادك غير صاح | | عشية هم قومك بالرواح |
فإنك لو قدرت له جوابا فقلت نعم أصحوا لكان التقدير أصحو عشية هم قومي.
([22]) القصر مع كونه بابا له مباحث مهمة في علم البلاغة هو أيضا له تعليق كبير بالأبواب الثلاثة التي مضت فإن الإسناد والتعليق يتكيفان بالقصر في بعض الأحوال فكانت مسائل القصر تجري في المسند إليه وفي المسند وغي متعلقات الفعل وشبهه أعني المفاعيل والحال والظرف والتمييز والموصوف والصفة ولذلك أخر بابه عن الأبواب الماضية لكونه ليس أشد تعلقا بواحد منها منه بالآخر. مثال قصر الحال على صاحبها والعكس ما جاءني راكبا إلا زيد وما جاءني زيد إلا راكبا. ومثال قصر التمييز ما طاب زيد إلا نفسا وما طاب نفسا إلا زيد.
([24]) فإن الكلمات المجتمعة إنما يجمعها معنى عامل نحو كتب زيد الكتاب وكسوت زيدا حبة وأخبرتك زيدا قائما وكذلك بالأدوات نحو مررت بزيد، فإن اننهت قوة العامل أي أخذ من المعمولات ما يقتضيه معناه توصل إلى غير ذلك بالإتباع من نعت أو بيان أو بدل وهذه التوابع هي في الحقيقة عين المتبوع في المعنى أما طريق توصل العوامل لما هو أجنبي عن معمولاتها فذلك منحصر في طريق عطف النسق فإنك إذا أردت أن تعدي كسا مثلا لأكثر من مفعولين لم تجد مسلكا لذلك إلا العطف فتقول كسوتك جبة وبرنسا وقميصا فلا جرم كان عطف النسق هو الذي يجمع الكلمات الأجنبي بعضها عن بعض في لمعنى والبعيد بعضها عن أن يصل إليه عمل العامل. ومثل ما قيل في المفردات يقال في الجمل بل الجمل للعطف أحوج لأن أكثرها أجنبي بعضه عن بعض إذ الأصل في الجمل الاستقلال ولذلك لقب عطفها بالوصل لأن له مزيد أثر في الربط لشدة تباعد الجملتين. ثم أعلم أن مسائل الفصل والوصل الغرض منها معرفة أساليب العرب في ربط جمل الكلام حتى يجيء المتكلم بكلام لا يوقع فهم السامع في لبس. ولذلك ملن حق مسائل هذا الباب أن تكون أعلق بعلم النحو إذ ليس فيها ما يفيد خصوصيات بلاغية غير أن الذي دعا علماء البلاغة إلى ذكرها في هذا الفن أمور ثلاثة: أحدها أن النحاة تكلموا على أحكام العطف ولم يتكلموا على أحكام ترك العطف. ثانيها أنهم تركوا كثيرا من مسائل المناسبات. ثالثها أنه لما كان العطف وتركه قد يلاحظ فيهما أمور ادعائية في الشعر والخطابة ناسب أن يذكر مع خصوصيات علم المعاني.
([27]) فقوله- زيد يكتب الخ- مثال للتماثل.وقوله- يعطي ويمنع- مثال للنضاد وقوله والسماء رفعها))الآية مثال لشبه التضاد.ويجمع أمثلة القرب من التماثل والتضاد قوله تعلى((أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت))الآية
([28]) هذا تهكم أي نزلتم بأرضنا لحربنا فبادرنا بقتالكم، فجعل نزولهم ضيافة وقتاله إياهم قرى، فلما عبر عن المعنيين المتناسبين في الحقيقة بمعنيين مجازيين متناسبين وكانا مترتبين في الوجود حسن العطف بالفاء واو غير أحدهما لقبح العطف، فلو قال نزلتم إلخ فقاتلناكم أن تشتمونا لكان ترتباً غريبا قبيحا، ولو قال نزلتم منزل الأعداء * منا فعجلنا القرى إلخ لكان قبيحاً كذلك.
([29]) لأن الصفع لا يترقب حصوله إثر المجيء لكنه لتعلقه بزيد كان فيه رائجة مناسبة فكان قبحه أضعف من قبح المثال الذي بعده.
([30]) شرط هذا العامل أن يفيد حكماً معتبراً فلذلك تعتبر الجمل المحكية بالقول كأنها لم يجمعها عامل إعرابي فلا يعطف الثانية منها على الأولى وإنما تأخذ حكم الجمل حين نطق بها قائلها، إلا إذا أريد التنبيه على تكرر القول نحو ((وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل)) إذا جعلنا الواو للعطف في المقول.
([31]) أي الذين اعتقدوه أنه غير منذر وكذبوه والذين اعتقدوا أنه لا رسول إلا الرسل الذي مضوا أو اعتقدوا إنه لا رسول بعد موسى عليه السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
([32]) وكذلك قوله تعالى: ((فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم)) الآية فإن جملة قال -يا آدم- بيان للوسوسة فكانت كعطف البيان فلم تحتج للربط.
([33]) حكى الأدباء أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه مر برجل في يده ثوب فقال له أبو بكر: أتبيع هذا الثوب؟ قال لا رحمك الله، فقال أبو بكر ((قد قومت ألسنتكم لو تستقيمون لا تقل هكذا قل رحمك الله لا، وقيل قال له قل لا ورحمك الله)).
([34]) مسائل الفصل والوصل من أصعب مسائل فن البلاغة لكثرة ما فيها من التفاصيل التي يعسر ضبطها بقاعدة تجمعها ولقد فرعها السكاكي تفريعاً زادها صعوبة، وأنا خالفت طريقته وطريقة التلخيص في هذه الرسالة فابتدأت الباب بما يفتح بصائر المتعلمين في تمييز خليطها واقتضبت في خلال ذلك من مهم كلام القوم ما يمكن بأيدي الطلبة مفاتيح معاقدها وضربت صفحاً عما عدا ذلك تاركاً إياه إلى أن تتهيأ الأفهام بعد هذه المرتبة.
([35]) لأن ما كان أسلوب كلامهم على تقديره كالضمير المستتر في فعل الأمر وكحذف المستثنى منه في الاستثناء المفرغ يعتبر كالمذكور فلا يعد حذفه إيجاز.
([38]) كقول أبي العاصي الثقفي لثقيف حين هموا بالارتداد عام الردة ((كنتم آخر العرب إسلاماً فلا تكونوا أولهم ارتداداً)) وكذلك يرتكب الإيجاز في الغرض لقصد أن يعين السامع الكلام كما كتب البديع لابن أخته ((أنت ابني ما دمت والعلم شانك، والمدرسة مكانك، والمحبرة حليفك، والدفتر إليفك، فإن قصرت ولا إخالك، فغيري خالك))
([40]) أنما زدت قيد الصريحة في تعريف التشبيه لا خراج ما دل على مشاركة أمر لا مر في وصف دلالة غير صريحة وذلك أنواع الاستعارة.لان صورة الاستعارة لا تنبئ بالمشاركة بل هي أثبات الوصف لمن ليس متصفا به و أنما قصد التشبيه بالقرينة كما يأتي وخرج أيضا التجريد الآتي في فن البديع فلا حاجة إلى ما أطال به صاحب التلخيص.كما أننا عدلنا عن لفظ المشاركة الواقع في التلخيص لئلا يرد نحو تضارب.
([42]) أردت بهذا أن أشير إلى عدم الاحتياج إلى زيادة قيد في اصطلاح التخاطب في تعريف المجاز وأن من زاده كالملخص نظر للظاهر.
([43]) وقد ظفرت له بمثالين من كلام العرب أردت ذكرهما هنا لقلة أمثلته المثال الأول قول سلامة بن جندل
ولي حثيثا وهذا الشيب يتبعه | | لو كان يدركه ركض اليعاقيب |
فجعل لليعاقيب وهي ذكور الحجل ركضا. الثاني قول طرفة في المعلقة* وإن تلتمسني في الحوانيت تصطد* فأطلق على لقائه لفظ الاصطياد.
([44]) هذا هو الوجه ولا يصح قول من قال أنه أرسل فلم يقيد بعلاقة خاصة لكثرة علاقاته لأن هذا لا يسمى إرسالا بل تكثيرا إذ الإرسال لا يكون إلا في مقابلة تقييد.
([45]) هذان المثالان استعير فيهما حرفان لمعنيين تمكن تأديتهما بحرفين حقيقيين وهما على وفاء التفريع وقد تكون استعارة الحرف لمعنى ليس له حرف يؤدّى به كقوله تعالى ((ألم ترى إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك)) فإن هنالك استعارة تبعية لأن لام التعليل محذوفة وقد جعل إتيانه الملك علة لإنكار الربوبية فكان الكفر في موضع الشكر.
([46]) أشرت إلى أن تقسيم الاستعارة إلى أصلية وتبعية تقسيم لا طائل تحته سوى ما يفيده كلام أسرار البلاغة من كون التبعية أبلغ والظاهر أن العلماء اضطروا إلى اعتبار الاستعارة التبعية تنبيهاً على ما جاء من الاستعارات في فعل وفاعل مثل نطق الحال مع صحة اعتبار الاستعارة في الفعل بتشبيه الدلالة بالنطق واعتبارها في الفاعل بتشبيه الحال باللسان وكذا قول عنترة *وشكى إليّ بعبرة وتحمحم* فنظروا إلى استعارة فعل الفاعل ولذا جعلوا استعارة الفعل المناسب لاستعارة الفاعل استعارة تبعية تنبيهاً على أن المقصود بالتشبيه هو الحدث لا فاعله ثم إذا جرت في الفعل سموها تبعية لأنها ناشئة عن استعارة المصدر هذا رأي الجمهور وهو قليل الجدوى، والسكاكي نظر إلى أن المقصود أولاً هو تشبيه صاحب فعل بصاحب فعل آخر وترتب على ذلك تشبيه فعله بفعل الآخر فوجدها نوعاً من الاستعارة المكينة فقول الجمهور وقول السكاكي هنا كقولهم في المجاز العقلي سواء بسواء فالتقسيم إلى التبعية عند الجمهور ليس مبنياً على ملاحظة الاشتقاق كما توهمه كثير من الناس لأنه لو كان كذلك لكان بحث علماء البيان فيه تطفلاً.
([47]) أشرت بهذا إلى الجواب عما يرد على تفسير المكنية الذي اعتمدته هنا وهو مذهب السلف من أنه يقتضي الجمع بين المشبه والمشبه به فيصير تشبيهاً بليغاً لا استعارة، وحاصل الجواب أننا بعد تسليم كون التشبيه البليغ ليس باستعارة فلا نسلم أن هنالك جمعاً بين المشبه والمشبه به لأن ذكر لفظ المشبه به ليس مقصوداً بالذات بل جيء به لبيان أن اللازم لم يرد به الحقيقة فتأمل.
([48]) أردت بهذا أن أجيب عما يرد على تجويز كون لازم المشبه به في المكنية مستعملاً في معنى مجازي على طريقة المصرحة على ما جوزه صاحب الكشف في ((ينقضون عهد الله)) وفي ((فأذاقها الله لباس الجوع)) من أنه إذا كان مستعملاً في معنى مجازي لم يكن حينئذ من لوازم المكنية.
([49]) ويقاس على هذا المثال غيره واعلم أن كل تشبيه وجهه مركب من متعدد يصير استعارة تمثيلية بأن تحذف أداة التشبيه وتستعير المركب المشبه به للمعنى المشبه كما تعمد إلى بيت بشار فتصيره ((فسقطت شهبنا عليهم في ليل القتام)) وكما تقول ((فالتهمتهم نيران الرماح ولها في دخان الغبار اضطرام)) وبذلك تكثر لديك أمثلة صالحة للتمثيلية التي لم يكثروا لها التمثيل.
([50]) وفيه رد على قول من رأى أن اجتماع الترشيح والتجريد يصير الاستعارة مطلقة ودفع لما يقال كيف يجمع بين قصد المبالغة وقصد التضعيف في استعارة واحدة كبيت زهير.
([51]) لأن القرينة في الغالب حالية فإذا كانت لفظية فالمتكلم لم يرد منها ترشيحاً أي إغراقاً في التشبيه على أنه قد يقال أن الترشيح والتجريد يحصلان ولو مع اعتبار قرينة المصرحة تجريداً وقرينة المكنية ترشيحاً لإمكان دلالة كل على الأمرين في آن واحد إذ هي اعتبارات أدبية يعتبرها المتكلم وينبه السامع إليها.
([52]) أردت بهذا بيان الفرق بين الترشيح الذي يعد مجرد ترشيح وبين ما يتعين أن يعد استعارة للرد على السمرقندي في قوله ويحتمل الوجهين.
([53]) فلا يرد قول من قال أن الترشيح إذا جعل استعارة لم يبق مستعملاً في ملائم المشبه به بل في ملائم المشبه فيصير تجريداً.
([54]) ظفرت بمثال يتعين به أن يكون أريد لازم المعنى مع المعنى وذلك قوله تعالى: ((وأنه هو أضحك وأبكى)) أراد افرح واحزن والضحك والبكاء كذلك.
([55]) فإن استلزم عَرض القفا للغباوة خفي لأنه من الفراسة، وكثرة الرماد تستلزم كثرة إحراق الحطب وهو يستلزم كثرة الطبخ فكثرة الآكلين فكثرة الضيوف وذلك يستلزم الكرم وهذه كناية عربية موجودة في أدبهم، قال من رثى طريفاً ابن تميم العنبري:
عظيم رماد النار لا متعبس | | ولا مويس منها إذ هو أوقدا |
([56]) أردت بهذا أن أشير إلى أن النسبة بين مقتضى الظاهر ومقتضى الحال العموم والخصوص الوجهي فيكون بين نقيضيهما وهما خلاف مقتضى الظاهر وخلاف مقتضى الحال وقال أن مقتضى الحال قد يكون مقتضى ظاهر وقد يكون غير مقتضى الظاهر فتكون النسبة بين المقتضيين وبين خلاف المقتضيين العموم والخصوص مطلقاً وهو اصطلاح والأول أولى.
([57]) احتراز هما كان ملتزماً في الاستعمال بحسب قياس الكلام مثل أنا زيد وأنت عمرو أو بحسب الطريقة المتبعة في نظائره مثل نحن الذين فعلوا كذا فإن طريقة العرب في ضمير الموصول أن يعود إليه بطريق الغيبة.
([59]) شبه المستقبل بالماضي في التحقق فاستعير للدلالة عليه الفعل الدال على الماضي والقرينة قوله: ((ينفخ في الصور)) بصيغة المستقبل، ومن هذا القبيل التعبير عن المستقبل باسم الفاعل أو اسم المفعول نحو ((وإن الدين لواقع، ذلك يوم مجموع له الناس)) لأن اسم الفاعل واسم المفعول حقيقة الحال.
([60]) التغليب من خلاف مقتضى الظاهر الراجع إلى المجاز كما صرح به في المطول فهو ذو قرينة خفية وهو إما مجاز مرسل علاقته اللزوم العرفي الادعائي وأما استعارة علاقتها المتشابهة في الجملة، وهذا بالنسبة للمعنى الذي لم يوضع له اللفظ وأما بالنسبة للمعنى الذي معه فهو حقيقة فيكون من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه فيكون هذا التغليب مستثنى من الخلاف في صحة استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه.
([61]) هو أحمد بن محمد الأنطاكي من شعراء الشام ومدح ملوك مصر وكان في زمن كافور توفي سنة 399 وقبل هذا البيت بيت آخر وهو:
أخواننا قصدوا الصّبوح بسحرة | | فأتى رسولهم إلي خصيصا |
([62]) وهذا الذي سلكه النابغة هو أحسن أنواعه وهو ما يوهم عيباً في الظاهر أو نحو العيب من المدح إذا كان الضد ذماً ومثله أيضاً قول الحريري:
ما فيه من عيب سوى أنه | | يوم الندى قسمته ضيزى |
بخلاف ما يكون فيه من الإيهام إلا ذكر لفظ الاستثناء أو الاستدراك نحو قوله:
هو البدر إلا أنه البحر زاخراً | | سوى أنه الضرغام لكنه الوبل |
كتاب قيم في بابه لا غنى عنه لمن يريد الإلمام بالبلاغة من المبتدئين.
ردحذف