قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في شرح العقيدة الواسطية وهو يشرح قول شيخ الإسلام: "أماّ بعد؛ فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة؛ أهل السنة والجماعة".
قال رحمه الله:شرح:"أما
بعد": (أما) هذه نائبة عن اسم شرط وفعله، التقدير: مهما يكن من شيء، قال ابن
مالك:أما
كمهما يك من شيء وفا ... لتلو تلوها وجوباً ألفافقولهم:
أما بعد: التقدير: مهما يكن من شيء بعد هذا، فهذا.وعليه،
فالفاء هنا رابطة للجواب والجملة بعدها في محل جزم جواب الشرط، ويحتمل عندي أن
تكون: "أما بعد، فهذا"، أي أن (أما) حرف شرط وتفصيل أو حرف شرط فقط مجرد
عن التفصيل، والتقدير: أما بعد ذكر هذا، فأنا أذكر كذا وكذا. ولا حاجة أن نقدر فعل
شرط، ونقول: إن (أما) حرف ناب مناب الجملة."فهذا
اعتقاد": "فهذا": الإشارة لابد أن تكون إلى شيء موجود، أنا عندما
أقول: هذا، فأنا أشير إلى شيء محسوس ظاهر، وهنا المؤلف كتب الخطبة قبل الكتاب وقبل
أن يبرز الكتاب لعالم الشاهد، فكيف ذلك؟!أقول:
إن العلماء يقولون: إن كان المؤلف كتب الكتاب ثم كتب المقدمة والخطبة، فالمشار
إليه موجود ومحسوس، ولا فيه إشكال، وإن لم يكن كتبه، فإن المؤلف يشير إلى ما قام
في ذهنه عن المعاني التي سيكتبها في هذا الكتاب، وعندي فيه وجه ثالث، وهو أن
المؤلف قال هذا باعتبار حال المخاطب، والمخاطب لم يخاطب بذلك إلا بعد أن برز
الكتاب وصدر، فكأنه يقول: "فهذا الذي بين يديك كذا وكذا".هذه
إذاً ثلاثة أوجه."اعتقاد":
افتعال من العقد وهو الربط والشد هذا من حيث التصريف اللغوي، وأما في الاصطلاح
عندهم، فهو حكم الذهن الجازم، يقال: اعتقدت كذا، يعنى: جزمت به في قلبي، فهو حكم
الذهن الجازم، فإن طابق الواقع، فصحيح، وإن خالف الواقع، ففاسد، فاعتقادنا أن الله
إله واحد صحيح، واعتقاد النصارى أن الله ثالث ثلاثة باطل، لأنه مخالف للواقع ووجه
ارتباطه بالمعنى اللغوي ظاهر، لأن هذا الذي حكم في قلبه على شيء ما كأنه عقده عليه
وشده عليه بحيث لا يتفلت منه.و"الفرقة"
بكسر الفاء، بمعنى: الطائفة، قال الله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ
فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122] ، وأما الفرقة بالضم، فهي مأخوذة من
الافتراق.و"
الناجية": اسم فاعل من نجا، إذا سلم، ناجية في الدنيا من البدع سالمة منها
وناجية في الآخرة من النار.ووجه
ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين
فرقة، كلها في النار إلا واحدة" قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: "من
كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي".هذا
الحديث يبين لنا معنى (الناجية) ، فمن كان على مثل ما عليه النبي صلى الله عليه
وسلم، وأصحابه، فهو ناج من البدع. و"كلها في النار إلا واحدة": إذا هي
ناجية من النار، فالنجاة هنا من البدع في الدنيا، ومن النار في الآخرة." المنصورة
إلى قيام الساعة " عبر المؤلف بذلك موافقة للحديث، حيث قال النبي صلى الله
عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين"، والظهور الانتصار، لقوله
تعالى: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا
ظَاهِرِينَ} [الصف: 14] ، والذي ينصرها هو الله وملائكته والمؤمنون، فهي منصورة
إلى قيام الساعة، منصورة من الرب عز وجل، ومن الملائكة، ومن عباده المؤمنين، حتى
قد ينصر الإنسان من الجن، ينصره الجن ويرهبون عدوه."إلى قيام
الساعة"، أي: إلى يوم القيامة، فهي منصورة إلى قيام الساعة.وهنا
يرد إشكال، وهو أن الرسول عليه الصلاة والسلام أخبر بأن الساعة تقوم على شرار
الخلق،
وأنه لا تقوم حتى لا يقال:الله
الله"،
فكيف تجمع بين هذا وبين قوله: "إلى قيام الساعة"؟!والجواب:
أن يقال: إن المراد: إلى قرب قيام الساعة، لقوله في الحديث: "حتى يأتي أمر
الله"،
أو: إلى قيام الساعة، أي: ساعتهم، وهو موتهم، لأن من مات فقد قامت قيامته، لكن
الأول أقرب، فهم منصورون إلى قرب قيام الساعة، وإنما لجأنا إلى هذا التأويل لدليل،
والتأويل بدليل جائز، لأن الكل من عند الله."أهل السنة
والجماعة": أضافهم إلى السنة، لأنهم متمسكون بها، والجماعة، لأنهم مجتمعون
عليها.فإن
قلت: كيف يقول: "أهل السنة والجماعة"، لأنهم جماعة، فكيف يضاف الشيء إلى
نفسه؟!فالجواب:
أن الأصل أن كلمة الجماعة بمعنى الاجتماع، فهي اسم مصدر، هذا في الأصل، ثم نقلت من
هذا الأصل إلى القوم المجتمعين، وعليه، فيكون معنى أهل السنة والجماعة، أي: أهل
السنة والاجتماع، سموا أهل السنة، لأنهم متمسكون بها، لأنهم مجتمعون عليها.ولهذا
لم تفترق هذه الفرقة كما افترق أهلا لبدع، نجد أهل البدع، كالجهمية متفرقين،
والمعتزلة متفرقين، والروافض متفرقين، وغيرهم من أهل التعطيل متفرقين، لكن هذه
الفرقة مجتمعة على الحق، وإن كان قد يحصل بينهم خلاف، لكنه خلاف لا يضر، وهو خلاف
لا يضلل أحدهم الآخر به، أي: أن صدورهم تتسع له، وإلاّ، فقد اختلفوا في أشياء مما
يتعلق بالعقيدة، مثل: هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه بعينه أم لم يره؟
ومثله: هل عذاب القبر على البدن والرواح أو الروح فقط؟ ومثل بعض الأمور يختلفون
فيها، لكنها مسائل تعد فرعية بالنسبة للأصول، وليست من الأصول. ثم هم مع ذلك إذا
اختلفوا، لا يضلل بعضهم بعضاً، بخلاف أهل البدع.إذاً
فهم مجتمعون على السنة، فهم أهل السنة والجماعة.وعلم
من كلام المؤلف رحمه الله أنه لا يدخل فيهم من خالفهم في طريقتهم، فالأشاعرة مثلا
والماتريدية لا يعدون من أهل السنة والجماعة في هذا الباب، لأنهم مخالفون لما كان
عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في إجراء صفات الله سبحانه وتعالى على
حقيقتها، ولهذا يخطئ من يقول: إن أهل السنة والجماعة ثلاثة: سلفيون، وأشعريون،
وماتريديون، فهذا خطأ، نقول: كيف يمكن الجميع أهل سنة وهم مختلفون؟! فماذا بعد
الحق إلا الضلال؟! وكيف يكونون أهل سنة وكل واحد يرد على الآخر؟! هذا لا يمكن، إلا
إذا أمكن الجمع بين الضدين، فنعم، وإلاّ، فلا شك أن أحدهم وحده هو صاحب السنة، فمن
هو؟ الأشعرية، أم الماتريدية، أم السلفية؟ نقول: من وافق السنة، فهو صاحب
السنة ومن خالف السنة، فليس صاحب سنة، فنحن نقول: السلف هم أهل السنة والجماعة،
ولا يصدق الوصف على غيرهم أبداً والكلمات تعتبر معانيها لننظر كيف نسمى من خالف
السنة أهل سنة؟ لا يمكن وكيف يمكن أن نقول عن ثلاث طوائف مختلفة: إنهم مجتمعون؟
فأين الاجتماع؟ فأهل السنة والجماعة هم السلف معتقداً، حتى المتأخر إلى يوم
القيامة إذا كان على طريقة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإنه سلفي.المرجع:شرح العقيدة الواسطية للعثيمين (ص: 48-54)
()
رواه
الترمذي (2641) / كتاب الإيمان/ باب ما جاء في افتراق هذه الأمة. واللالكائي في
"شرح السنة" (147) ، والحاكم (1/129) والآجري (15و16) , من حديث عبد
الله بن عمرو رضي الله عنهما بإسناد فيه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي, وهو
ضعيف لسؤ حفظه, ولكن للحديث شاهد من أنس رضي الله عنه أخرجه الطبراني في "
الضغير" (724) , والعقيلي في "الضعفاء" (2/262) , وبه يرتقي إلى
درجة الحسن.() ورد عن جمع من الصحابة رضي الله عنهم, وهو حديث
متواتركما نص على ذلك:شيخ الإسلام ابن تيمية في "اقتضاء
الصراط" (1/69) , والكتاني في: "نظم المتناثر" (94) , والزبيدي في
"لقة اللالئ المتناثرة" (68) , والألباني في "صلاة العيدين"
(ص39-40) . أخرجه البخاري/ كتاب المناقب/ باب سؤال المشركين أن يريهم النبي صلى
الله عليه وسلم آية، ومسلم/ كتاب الإمارة/ باب قوله صلى الله عليه وسلم: "لا
تزال طائفة....".()
رواه
مسلم (2949) عن ابن مسعود رضي الله عنه في كتاب الفتن، باب قرب الساعة.()
رواه
مسلم (148) عن أنس بن مالك رضي الله عنه, في كتاب الإيمان/ باب ذهاب الإيمان في
آخر الزمان.()
رواه
البخاري (7312) , ومسلم (1920).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق